أتساءَل حتى هذه اللحظة إن
كان من ممكن أن يكون تفريغ إنسان للكتابة، أو للرسم، أو لصناعة المحتوى الإبداعي
وأن تكون هذه وظيفة حكومية رسمية يمكن التقدم إليها ودخول الاختبارات المناسبة
ومقابلة لجنة متخصص يمكن أن يكون مسار عملٍ للشباب في عُمان.
أتساءل وأصاب بالقليل من
الخيبة عندما ألزم نفسي بالواقعية، هل ستكون لجنة مكونة من أصدقاء فلان وعلان،
ويتولى أصدقاء فلان وعلان تفريغ أصدقاء فلان وعلان وهكذا دواليك، إذا أردنا أن
نكون واقعيين فكلنا نعلم أن هذا جزء من واقع الحال الثقافي في عُمان، فمتى ستكسر
هذه الدائرة؟
ماذا لو جعلنا الأمر أكثر
عمليةً، وتم التعامل مع لجنة من الخبراء والأكاديميين، والنقاد وكبار الكتاب
والأدباء، لجنة حقيقية يمكنها أن تحدد هل هذا الشاب الذي يتقدم ليفرغ لكتابة الشعر
سيصبح منتجا؟ ودعوني أواصل الخيال، ماذا لو قلنا أن الكاتب في عمر معينة يتم
تفريغه بالحد الأدنى من الراتب، شريطة أن تقرر لجنة نقدية جدية تفرغه للكتابة،
وتُدخله لاحقا في عملية فرز تاريخية أخرى. لجنة يجب ألا تتعامل مع تفريغ كاتب وفق
اعتبارات إنه [ما زين نخرب عليه، تراه راتب] ويصبح الأمر تحديا حقيقيا. فلأقل أن
الشاب من عمر 18 حتى عُمر 25 يتاح له باقات تفريغ ترتفع مقابل إنجازه، وقدرته على
صناعة زخم إبداعي، لماذا أتحدث عن الكتاب فقط، الرسامون أيضا، والمصورون، وكل من
ينتج أعمال إبداعية، يعمل رسميا في الحكومة
ويستلم راتبا ويطالب مقابل تفريغه أن يُنتج مادة إبداعية تتحول إلى منتج، يتم
بيعه، ومن الربح الكلي لتفريغ الكتاب يتم تمويل تفريغ آخرين، سواء ذلك المؤقت
عندما يقرر مدرس كيمياء أن يأخذ عاما بعيدا عن التدريس ليكتب رواية، أو ذلك طويل
الأجل عندما يتفرغُ رسام لرسم اللوحات وبيعها. تخيل أن تكون [رساما] مهنة حكومية؟ هل
سيقلق أحدهم على وضع الثقافة وتأثير الإبداع على المجتمعات بعدها؟ أعلم أن كلامي
شاطح في الخيال لكنه أحد الحلول، ومع التوجهات الإبداعية الجديدة في العالم،
التصميم، والرسم، وكل ما له علاقة بالمواهب يتحول إلى مهن، ومع هذه المهن مهن
جانبية، ومع زخم الإنتاج الثقافي، يمكن إحياء المسرح، وبعد المسرح النص الدرامي،
وهذا كله سيجعل من عالم الإبداع نقطة جذب بدلا من الحال الذي هو عليه الآن، يسمى
[هواية]، هذا ما يكاد أن يصبح عليه حال الأدب والنقد في عمان، هواية جانبية تشبه
العمل التطوعي.
حسنا، قلنا أن فكرةً مثل هذه ستحتاج
إلى قرار جريء وشجاع، ماذا عن العملية التجارية؟ هل ستتحول فكرة التفريغ إلى ما
يحدث في جمعية الكتاب والأدباء؟ أكبر دعم ممكن للكاتب هو طباعة كتابه مجانا! هذه
المرَّة لا، لسنا في عالم الصدقات والعاملين عليها، التفريغ يعني من اسمه، سؤال،
وجواب، وحساب، وعقاب، وتأخير راتب في حال إخلالك بشروط التفريغ. كم ستتحول هذه
الفكرة إلى كابوسٍ قبيح إن كان هذا يعني انتقاء مجموعة من الكتاب الذين تربطهم
علاقة بفلان وفلان ويصبح الموضع رهن التحيزات الشخصية، ستنجح هذه الفكرة فقط باللجنة
الرئيسية التي ستحدد للكاتب راتب التفريغ. حتى وإن كان دخلا قليلا، هامشيا، مقابل
كتاب في السنة، أو مقالين في الأسبوع لكتاب الرأي، هذا إن أثبتوا جديتهم وجودة عملهم.
حزم للتفريغ، ومع الوقت يمكن أن تتحول لربح مشترك، مثلا المجلس العُماني لتفريغ
الكتاب والأدباء، أو المجلس الثقافي للجنة التفريغ، أتخيل الكاتب العماني الشاب
بعد خمس سنوات يحمل مسودات كتب، وسيرة ذاتية ويشرح للجنة مليئة بكبار النقاد
والأدباء لماذا يجب أن يتفرغ، ولماذا يستحق راتب التفريغ. فكرة ليست عويصة ولا
مستحيلة التنفيذ ولن تكلف ملايين كثيرة، خمسة كتاب كبداية، هؤلاء الكبار جدا جدا
والذين يعملون في وظائف حكومية منذ سنوات طويلة. لا أعرف هذه الحيثيات الإدارية
ولعل أفكاري فيها ستكون ضحلة، لكن أظن أن الفكرة وصلت، العالم يسير بالمال ولا
يسير إلا به للأسف، والعملية الإبداعية إن لم تصبح مهنة فسنبقى نلف وندور في
الدائرة نفسها، نبحث عن مبدعين، ونتساءل عن سر العزوف الكبير عن الفنون، وسيهاجم
البعض المحافظين، أو غير ذلك بينما في الحقيقة أن التأسيس تأخر منذ زمن بعيد،
تأسيس هذه الثقافة الاجتماعية ليكون الإبداع مهنة، وليكسب منه الجميع، ولتتوقف
حكاية طباعة الكتابة بستمائة ريال. أتخيل حال هذا المقال، كُتب ليمكن نشره في منصة
تشرف عليها وزارة الإعلام! ولا مشكلة فيه، تحية لك أيها الرقيب الإعلامي الذي يقرأ
كلامي هذا، أتمنى أنك لم تزعل عندما لم تجد في تدوينتي هذا ما يمنع نشرها في كتاب!
تفريغ الكتاب، والفنانين،
والعازفين، والمنشدين، والمقرئين لصناعة المحتوى الإبداعي، ولنشر الكتب، واللوحات،
والمعارض خطوة أفضل من سياسة الدعم الفردي التي شاعت لسنوات في الوسط الثقافي،
وانتقاء مجموعة يتم تكريمها بذلك، تحويل هذا إلى [بزنس] يخدم الجميع، ويصنع زخما
مبدئيا، ويصنع نوعيات جديدة من الوظائف وأنماط الحياة، ويخدم التنوع الحياتي في
عمان بشكل عام، ويحل جزءا من المشكلة الكبيرة لحياة المبدعين في عمان. الحياة في
عمان رأسمالية بشكل كبير جدا، وعالم الثقافة القادم من يسر الدولة النفطية وسهولة
الكتابة الترفية لم يخدم الإبداع كثيرا، مر وقت طويل حتى ظهرت لنا دلشاد وجوخة
الحارثي.
ستكون بداية لمرحلة مختلفة في
العمل الثقافي في عمان إن حدث ذلك، ولعلها استعادة لآمال قديمة جدا متعلقة بالكتابة
الحديثة، وبصناعة المحتوى، وبكل ما يحفل به العالم الجديد من مفاجآت، الابتكار،
والتحقيق التاريخي، وأشياء كثيرة يفعلها كتاب يمكنهم أن يساهموا في الجانب
التثقيفي من العمل الثقافي، أما الجانب الإبداعي، فهذا الكوكب لن يستمر بدون فنانين،
وشعراء، ورسامين، وعازفين، وملحنين، وغيرهم من صعاليك المعنى الذين يعطون لكل لحظة
جميلة وصفا، وكلمة، ولحنا. الكوكب الإنساني ينتمي لهذا الجمال، وأمام طوفان
الواقعية وما به من مرارة، يحتاج هذا العالم للكثير من القصائد، والكثير من القصص،
والكثير من اللوحات. هذه الحياة تحتاج إلى من ينسج الكلمات ليخلد معناها. وما
يدريك، لعل كل النهضات الثقافية سوف تبدا من اليوم الذي ندرك فيه، أن الكاتب يستحق
أن يُعامل كصاحب مهنة، يستحق أن يعيش بها ولها.
على كل الأحوال!
عسى!