بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 4 يونيو 2022

طبقية العلم، وفردية الإرادة

 تمجيد العلم ظاهرة من ظواهر الثورات الصناعية. وكأنه جديد مُحدث. الرياضيات قديمة، بنى بها الفراعنة إهراماتهم، والتشريح قديم، رسمت فيه صور العضلات، والغدد، [والأخلاط] منذ آلاف السنوات. العلوم تطورت، ولم تُخلق من العدم في العصر الحديث، واعتقاد أن العالم السابق عاش في جهل مطلق، جهل!

من ضمن أكبر معضلات العالم، طبقية العلم. عصور وعصور مرَّت والعلم محصور على من لديه جلد الشياه والبقر والأكتاف، وورق البردى والقدرة الكيماوية على صناعته. لم يكن هناك عصر محروقات لكي تتمكن الثورات الصناعية من نشر العلم على الجميع، والكشوفات تستمر، لكنها ليست محدثه وجديدة كليا.
تصفية الذهب، والمعادن، وكمياء الأحماض والفلزات قديمة. العلوم الفلكية، والرياضيات قديمة، الفيزياء والبناء، قديمة. أخذ العنصر البشري في كوكب الأرض وقتا طويلا لكي يصنع اللغة العالمية الجديدة. مشكلة القدماء اجتماعية في المقام الأول، متعلقة بالعدالة في توزيع أدوات العلم، لا غيابه!
صهر الصلب، صناعة المعادن، النسبة والتناسب، دوران الأرض، دراسة الطقس، كلها علوم قديمة، أبحر بها الإنسان وجاب البسيطة، وتناثر في أمم الأرض. حضارات الأنكا، ووالغابات، والأدوية العشبية، والعلم التراكمي لم يتوقف. عقل الإنسان لم يتغير، طبقية العلم هي التي تغيرت.
والتعليم يتغير، ويأخذ مقاربات جديدة، هي أقرب للعدالة الاجتماعية، أصبح في عصر الشاشات ملك الجميع. أدوات التعلم التي كانت مقيدة في مؤسسات رأسمالية، أو في نخب ومجتمعات سرية، أو ممنوعة ومقيدة فقط لفئة دون أخرى، كل هذا انكسر اجتماعيا، كسرته إرادة الإنسان، والصناعة، التي قوت إرادته.
لم يعد طلب العلم كما كانَ، مغالبة للظروف والمكان والزمان، أصبح الآن قضية ذاتية، وإرادة شخصية، العلم في كل مكان، وفي [هارد دسك] واحد يمكنك أن تضع ملايين الكتب، والدراسات، والمحاضرات، لست بحاجة للسفر من وراق لوراق لكي تفترس كل المؤلفات وبعدها ترتحل لمكان آخر. الفردية انتصرت.
والعالمُ الجديد يعيد ولادة نفسه، من عصر الجموع إلى عصر الأفراد، وهؤلاء، عقلا عقلا، حمضٌ من المنطق يفتت السور الكبير. الرأسمالية وطبقيتها تتحول مع الوقت إلى أدوات تبادل بين الفردي والجمعي، والعلم متاح للجميع، والتطور البشري مستمر، العلم الحديث ظاهرة اجتماعية، وليست معجزة كونية!
المؤسسات العلمية في عصر كورونا أخذت مسارا مختلفا، التعليم عن بعد أثبت أهمية الحضور العملي، وعدم أهمية الحضور في النظري. العلم للجميع، هكذا أصبح العالم لفترة بسيطة، والآن عدنا للوضع السابق، عندما تكون المؤسسات العلمية رحلة سياحية وتكاليف باهظة من أجل تجربة اجتماعية!
ما حدث في الكلية العمانية مؤخرا يربطه كثيرون بالتغيرات الاجتماعية، وهذا للأسف من ضروب الدعاية. ما حدث هو استمرار للتغير الاجتماعي الكبير في عصر الصناعة الجديد، عصر البيانات الضخمة، والخوارزميات، والإنترنت. لم يعد التعلم مرتهناً بمؤسسة رأسمالية، وانكسرت طبقية العلم، وبقي الترف.
وثمة فرق كبير بين العالم، وبين صاحب الشهادة. وبين العلم، والرخصة العلمية. الجميع يعلم ذلك، ولكن ماذا تفعل الأكاديميا؟ وبالذات في المجتمع العربي؟ وجاهة اجتماعية تخفي وراءها مجتمع بحثي غير متصل بالناس، همه السلطة، والذي لا يركض وراء السلطة مهمش يتم تجاهله، لأنه طالب علم!
وما زال هذا الافتتانُ الكبيرُ مستمراً. وحدث الكلية الذي حدث في عمان يُناقش من الزاوية الأقل أهمية [رأي شخصي] أما الزاوية الأهم، وآلية التعلم، وكسر طبقية العلم، وتحول المؤسسات العلمية إلى مفرزة رأسمالية تدفع فيها لتحصل على رخصة ورقية استمدت قيمتها من تراكم اجتماعي قبل البحثي.
وما المهم حقا؟ التعلم، والمهارات أليس كذلك؟ هل هذا الذي يحدث في محيطنا العربي؟ نعم يحدث، ولكن هُناك جانب آخر، مالي بحت، ربحي، أساسه صناعة الوهم، والرواج لهذا الوهم أفرز لنا كل هذا الرماد البحثي، والأكاديميين خبراء الدعاية، وسدنة السلطات، وقامعي الفردية، ومانعي العلم عن الجموع.
وطبعا، قبل أن أتحمس، سأقول [خلينا على قدنا] في التأسيس للغدِ الذي تسود فيه العدالة العلمية الجميع. عندما تتغير معادلة المال من أجل الشهادة، إلى الساعات من أجل الخبرة، والمعرفة، والمهارة. هذا الكوكب سيكون جميلاً ذات يوم، لم نخرج من طبقية العلم إلا قريبا.
وقد لا نعيش هذا الغد . غد الإرادة الفردية، عندما يكون العلمُ النظري ملك الجميع، سوف تظهر النظريات الأكاديمية الجديدة، ولديك الهند كمثال بارز، والصين. وكل هذه التكاليف الهائلة سوف تقل، وتقل، وكل ما تحتاجه لتتعلم لن يتجاوز حاسب آلي، واشتراك إنترنت، وحصص عملية أقل تكلفة من السابق.
وحتى نظرية المتعلم الذاتي، تأثرت بطبقية المال. من هذا الذي يحتاج الآن لشراء مكتبة وزنها أطنان وأطنان؟ آلاف الكتب؟ هذه الطبقية على وشك الزوال. والعلم المجيد، لم يبدأ بعد، لم يتجاوز عصر القنابل النووية والأسلحة الجرثومية. غد لن أعيشه للأسف، بالتوفيق لسكان عام 2200. انتهى