بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 12 ديسمبر 2022

العقاب قبل الوقاية!

 ونحن نحلل - كغرباء - حدثاً مثل جريمة قتل ذهبت ضحيتها امرأة، قد نفقد قدرتنا على الحياد المنطقي، فتتداخل الآراء التي نتحيز لها مسبقا مع الدروس المستخلصة من الواقعة، والتي عادةً ما تهدف إلى رصدِ تغير اجتماعي ما، أو ثقافي يوقف هذه الظاهرة، قد نريد خيرا ولكننا نفعل العكس.

حادثتا القتل جرتا وراءهما جدالا خارج الحادثة. وإذا بهذه المأساة تصبح وقودا لجدال سابق، - يقول النسوية هي السبب، ولولا [شرور] النسوية لما حدث ما حدث، ولكانت المرأة مطيعة صاغرة تسمع الكلام والعالم هادئ [والأمور طيبة]. وتلك تقول الذكورية السامة هي السبب، وسحقا للذكور! ويستمر الجدال
والسؤال، هل لدينا قتيلان أم أربعة؟ العدد المتوقع للقتلى هو [4]، جريمتا قتل، وانتحاران. هل سيرد علي أحد الغاضبين ويقول [فليذهب القاتل للجحيم] يمكنك قول ذلك، لكنه لم يكن ليقتل إن كانت متمسكا بالحس المنطقي للحياة، ليس وهو في بلاد تطبق الإعدام للقتل العمد!
وغني عن الذكر، أن هذا هو [كلام غرباء]، وأن الوقائع الكاملة ليست لدى أي شخص، ومما يصعب الوصول للحقيقة هو ذلك الفيضان من التخرصات التي تعزز تحيزات مسبقة في عقول مبتكريها، قضية الأحياء وهمومهم [الأبقى] بكثير منه المغدورتين، ولماذا قُتلتا! قد نفعل ذلك دون انتباه وننساق وراء تحيزنا.
والإجابات لن تكون مقيدة فقط بالبحث الاجتماعي، أو ما نفعله أحيانا بأنفسنا عندما نتحول إلى جهابذة البحث عن أقرب إشاعة. هذا شيء نفعله لنهدئ من ذعرنا، وأوجاعنا، لكي نصنع أكبر اختلاف ممكن بيننا وبين الواقعة لكي نعزز وهماً يدفعنا للطمأنينة وهو أن كل هذا: يحدث للآخرين فقط! نحن غير!
ولهذا نصدِّق الإشاعات ونبحث عنها بجنون، لأن الحقيقة غير مهمة، مصالح بقائنا تقتضي ألا نشبه القاتل أو المقتول، وتصبح الحقيقة مثل الفكرة السيئة التي يدفعها أحدهم عن ذهنه، ولا يُلام من يفعل ذلك، فمن الذي لديه قدرة على دراسة متعمقة ليس لديه أي قدرة على الوصول لحيثياتها. الوهم أسهل!
ولو أردنا أن نتحدث عن الحلقة الناقصة فعلا في جريمتي قتل، وانتحارين، لوجدنا أنها تتجلى في غياب آلية للتقييم النفسي العلمي والمنضبط مهنيا، يجب أن نعترف أننا في هذا الجانب ننتظر الجريمة حتى تحدث ونركز على مبدأ العقاب أكثر من الوقاية، هذه حقيقة مؤسفة!
وكيف نتناول الأمر؟ الخلاصة الفردية: تصديق إشاعة والانسياق وراء تحيز. الخلاصة القانونية: القصاص، والإعدام. الخلاصة الاجتماعية: اليسار: الذكورية هي السبب اليمين: النسوية هي السبب ماذا عن الوقاية؟ كيف تتقي حادثتين إضافيتين؟ الحديث يقل، ويفقد أهميته، وحتى جاذبيته!
والحلول كثيرة وهائلة، وموجودة في التخصصات العلمية المرتبطة بالحادثتين. التقييم النفسي، والبحث الاجتماعي، وارتباط ذلك مع أجهزة فرض القانون، والإذن القضائي. هل اخترنا هذا المسار المهني؟ كلا، اخترنا انتظار الكارثة لتحدث، وكأن العقاب سيمنع متهورا هائجا من الانتحار بالقتل!
منذ الطفولة في سمائل، وأنا أذكر جريمة مشابهة، وكلها تجتمعُ في شيء واحد، القاتل يهدد علنا، ثم ندخل في الحلقة الناقصة [هيئة ولجنة التقييم النفسي] وإما تحدث الجريمة أو لا تحدث. وفي حادثة سمائل، حدثت الجريمة. يتساءل كثيرون: لماذا لم يتم إيقافه؟ لأن هُناك مؤسسة [وسيط] غائبة!
المؤسسة الوسيط هذه لها آلاف الأشكال الإدارية، لكنها كلها تعتمد على مبدأ رئيسي، لجنة تقييم نفسي مرتبطة بلجنة اجتماعية، مرتبطة بالقضاء. ما أن يصدر من أحدهم تهديد بالقتل، وجب تقييد تحركاته،ووضعها تحت الرقابة، وتفعيل جهاز لمراقبة موقعه، وإجراءات كثيرة لماذا لا يحدث كل هذا؟ لأنه مكلف!
لأن عقلية [مشي حالك] ولأن عقلية [ليش نعقدها] هي السائرة في الأذهان، مثل هذه المؤسسة الوسيط حتى هذه اللحظة لم تقم بعملها. ولا أتحدث كشخص خارجي، أنا نفسي يوما ما أطلقت تهديدا مماثلا ضد إنسان آخر، كل هذا لم يحدث معي، ذهبت للعلاج لفترة بسيطة وخرجت لأرض الواقع مع لعبة الاحتمالات!
ومع التهديد بالقتل هُناك سلسلة من الإجراءات تؤخذ بجدية، أبسطها تقييد حركة الذي قام بالتهديد ووضعها تحت الرقابة، سحب رخص الأسلحة التي لديه وإجباره بتسليم أسلحته، ووضعه في برنامج تقييم يرسل خلاصاته للقضاء الذي بعدها يحدد وفق تقارير الخبراء وضعه في حبس منزلي، أو حل آخر.
والتقنية الحديثة تسمح بحلول أوسع وأكبر بكثير من الحبس. ربط موقع من قام بالتهديد بتطبيق مع الضحية المحتملة تحذرها في حال اقترابه، أو تبلغ الشرطة مباشرةً في حال خروجه من منزله. مئات الحلول التقنية، لكنها تحتاج للتصدي لعقلية [ما يحتاج نعقدها] وعقلية [مشي حالك] وعقلية [عسى خير].
هذا عن حماية الضحية، ماذا عن حماية المُعتدي؟ هل سيقول جهابذة الإدانة شيئا عنه؟ ألا يجب أن يكون هُناك نظام متكامل يسمح له بطلب الاستشارة والعلاج؟ لا أفهم لماذا يظن البعض أن الخط الساخن هو مركز للبلاغات؟ الخط الساخن مؤسسة وسيط، تعطي استشارة، ولا تنفذ. فهاتف الشرطة يعتبر خطا ساخنا!
ولا أعلم لماذا تتعلق بعض العقول بهذا "الإطار" وكأن النصر الشكلي الدعائي هو المهم، خط ساخن، أو هاتف بدالة، أو غيره، هذه الشكليات غير مهمة، هُناك منظومة متكاملة يجب أن تكون جاهزة ومدربة للتعامل مع هذه الحالات، ويجب أن تقدم الإرشاد والدعم للضحية المحتملة، وللمعتدي المحتمل.
حماية الضحية ستكون بوضعها في مكان آمن، وحماية المعتدي ستكون بوضعه في برامج تقييم وعلاج، هذا التعقيد هو الحل الوحيد لتجنب هذه النهايات المفرطة في بداهتها، وأن تنقذ نفساً من الموت هو نفسه أن تنقذ يدا من القتل. عدد السكان في عمان يتزايد، ومثل هذه الحالات لن تقل مع الوقت.
هذه الفجوة الإجرائية هي التي تمنع حتى هذه اللحظة أي تصرف مهني مع حالات تهديد كثيرة. جرائم القتل لا يمكن اجتنابها كلها، لكن هذه الجرائم الواضحة يمكن اجتناب الكثير منها، بالقليل من الحيل التقنية وبالكثير من [البارض] وبإلغاء نظرية [طاح من كيس حيّانه] بما فيها من أنانية وتنصل.
خط ساخن يحل الكثير من المشاكل، ولكن بدون خلط بينه وبين الخطوط [التنفيذية]. وجود مؤسسة [قانونية/اجتماعية/علاجية/إرشادية] تعمل بشكل متخصص في هذه الحالات سيكون حلا من الجانب النظامي. ووجود ثقافة الرصد والتوقع منا نحن كمجتمع سيشكل الحل الثاني، ولن ينجح كليا، لكنه لن يفشل تماما!
والتعامل مع هذه الحالات يحتاج إلى رشاقة إدارية وسرعة تنفيذية، نظرية [اللجنة تجتمع نهاية الشهر] هذه أفسدت ما أفسدته بما يكفي ويزيد! حلول البداهة السريعة، والمنطق الثنائي، والحديث باسم الحزازات، والغضب، ولغة [العقاب هو الحل] .. قاتل ولا يعبأ بالإعدام! ماذا سيردعه عقابك؟
يمكن للبعض أن يستسهل ويقول [الوزاع الديني]، ويمكن لفلانة أن ترفع عقيرتها مُطلقة أحقادها الشخصية ضد الذكور، ويمكن لرجل أن يظهر عقدة نقصه بتأييد القاتل وإدانة القتيلة. هذه كلها حسابات [ما بعد الكارثة]، أين حسابات ما قبل الكارثة؟ قليلة الورود والذكر في الحدث الدراماتيكي الكبير!
كل الحلول ستأتي ولكنها لن تكون من نظرية [اللجنة تجتمع مرة كل أسبوعين]،وجود مركز متخصص، إرشادي، وعلاجي، له صلاحيات قانونية وارتباط مع الشرطة والقضاء ووزارة الصحة، ولديه كفاءة وتدريب سيكون حلا وقائيا كبيرا، ولا سيما مع صلاحيات واضحة، وقدرة على تلقي البلاغات قبل وقوع الكارثة! انتهى!