عند الحديث عن الثقافة والإبداع يتفقُ الجميعُ بشكلٍ ما أو بآخر على أهميتها
للفرد، لأي فردٍ في الحياةِ وفي التاريخ، منذ عصر الفراعنةِ، وثقافة الزراعة،
والتعامل مع سلطة الفرعون، إلى ثقافةِ العصر الحديث، والتعايش مع القرية الصغيرة.
الجميعُ متفقٌ على أنَّ الفردَ يحتاجُ إلى ثقافةٍ ما، وقد يغالي البعض في مدح
[فرِّيخته] كما يقول المثلُ العماني. يبالغُ البعضُ في التباهي بسطوة ثقافةٍ على
أخرى، هذا يمدح الثقافة السياسة، والتاريخية، وأنظمة الحكم والقانون،
والديمقراطيات، والعقد الاجتماعي، وذلك ينسب حراكَ العالم والتاريخ للشعر،
والشعراء، والمجاز، واللغة، والاستعارات، والبلاغة، تلكَ تؤنِّث كل شيء في التاريخ
وما لم يحمل التاء المربوطة أو نون النسوة فهو مرفوض، وأولئك مفتتنون بمرجعيتهم
الدينية أو المذهبية. هذه المعرفة الجمعية، المتراكمة، والمكتسبة، والمتبادلة بين
الجمع المؤثر والفرد التابع، أو الفرد الفارق مع الجمع التابع وغيرها من أشكال
التبادل متفقٌ عليها، لا يكادُ ينكر أهميتها أحد.
عندما تدخل كلمة [عُمان] في جدال فهم الثقافة، تتغير الأشياء جذريا. لسببٍ
ما تحمل كلمة الثقافة في عُمان عدة معاني إشكالية، بعضها بسبب الصورة النمطية غير
المتعمقة التي تُمضغُ في الأوساطِ الاجتماعية، وقليلٌ منها موجهٌ بفعلِ فاعلٍ يعي
ما يفعله. الثقافةُ بالنسبةِ للبعض هي ذلك الشعرُ، والأدبُ، والسردُ، وكثير من
الكتابات التاريخية، وبعض الدواوين الكلاسيكية. فريقٌ آخرُ يراها ذلك الجان جاك
روسو، والنيتشة، والإمبرتو إيكو، وأدباء عصر التنوير، وقليل من دان براون وكثير من
الأفلام الفرنسية والإيطالية، وعند البعضِ هي ذلك التابع اللصيق بحركة المؤسسات
الدينية، فهي [ذلك النص الذي لا يخالف الشريعة]، ومعَ طائفة غير قليلة من
الكتَّاب، هي ذلك المشروعُ الوليدُ الذي يعيش إجهاضات متتالية، وهكذا دواليك، لا
أحد يتفق على تعريف الثقافةِ في عُمان، وحتى ذلك التعريف الإنساني الشامل الذي
يكفي للفهم يقفُ حائراً أمامَ شخصٍ واحدٍ كان يتحدث بوضوح، وأريحية وما أن تدخل صفة
المحليِّ في السياق إلا ونجده قد تناثر خطابُه بين القبائل والفئات والجهات، ووضعَ
مجموعة قاسيةً من الشروط كلها تلفُّ وتدور حول: هل هُناك حركة ثقافية من الأساس!
يلجأ عقل الفرد للأحكام القاسية عندما لا يوافق الواقع طموحه الكبير. وقبل
أن يكون المرء مُنتجاً في حقل الثقافة لا بدَّ أن يكون وقد مرَّ على مجموعة
الصدمات التي يعيشها كل من هو في بدايته. لا يوجد مثيل لماركيز في عُمان، وقس على
ذلك، لا مثيل لنيتشة، ولا مثيل لبورخيس، ولا مثيل يمكن أن نطلق عليه [محمد عابد الجابري
عُمان]. حقيقةٌ مؤسفةٌ، ولكنها حقيقة، من هذا الذي سيجد الاكتفاءَ التام ويبقى
للأبد في محيط المتوفر العُماني من نتاجات المعرفة! يتجنب البعض سرد هذه الحقيقة
المُرَّة، لكنه لا يتجنب أن يعترف بها ضمنيا. هل سينبذ قارئ في بداية عمره الذهني
سارتر لكي يتتبع مقالات الكاتب فلان، بما في ذلك كاتب هذه السطور؟ قطعا لا، وإن
فعل فهو موعودٌ باليوم الذي يكتشف فيه شُحَّ النتاج مقارنة بالعالم، وبالأوساط
الثقافية الأخرى، وسيصدمه كيف لدولة قليلة السكَّان، قليلة الأدباء، حتى هذه
اللحظة لا نظامَ واضح لتفريغ المفكرين، والنقاد، والكتاب، والأدباء، والعازفين،
والرسامين، وغيرهم للعمل الإبداعي، كيف يمكن لدولةٍ مثل هذه أن تقدمَ لها منافسين
كباراً للكتاب العالميين. حقيقةٌ أخرى من حقائق الثقافة في عُمان، ومجتمعا ضئيل
العدد، كبير التأثير، مهدد الإنتاج بسبب ظروف الحياة وملابساتها.
يتفق المثقفون في عُمان على أهمية الثقافة، هذا حتى ينزلُ النقاشُ من عالمِ
الفكرة إلى عالمِ الحدث. هُنا يُرفع شعار [لا شيء يعجبني]، ولستُ بصدد اعتبار ذلك
خطئا، وأيضا، لست بصدد اعتبار ذلك صوابا. لا شيء يعجبني! أين المسرح؟ قليل وشحيح،
أين الموسيقا؟ إلا دار الأوبرا، وقليل من شركات الإنتاج ينحصر النتاج الموسيقي في
تجارب الهواة، والكثير من الأغاني الوطنية! عدد الروايات التي خرجت من الحدود
ووصلت إلى الجوائز العربية الكبرى قليل جدا، يأخذ من القارئ البطيء أقل من شهرين
لكي يلتهم كافة الأعمال الكُبرى في عُمان، وبعدها؟ هل يمكن أن نسمي حراكا سرديا،
أو أدبيا، أو شعريا، بالكافي وقارئ واحدٌ سيأخذ أقل من ستة أشهر لكي يمرَّ على هذا
النتاج؟ فلأقل سنة، هذا إن قرر قارئ أن يتفرغ للإبداع العُماني. يتفق المثقفون في
عمان على أهمية الثقافة، وبعد النزول من الحدثِ إلى الشخوص هُنا يختلف الحديث، كأي
وسط ثقافي في العالم، كل شيء مبني على الاختلاف. حتى هؤلاء الذين لا يشخصنون في
علاقتهم مع الآخرين في الحقل نفسه، لا يتفقون مع أحد، وظاهرة الشللية في الوسط
الثقافي صُرفَت فيها ليترات من الحبر عالي الجودة حتى أصبح الحديث عنها ضربا من
ضروب التشكي والتفجّع وتضييع الوقت.
المثقف محليٌّ عندما يتعلق الأمر بقيمته الاجتماعية، وعندما يتعلق الأمر
بتأثيره في مجتمعه، وعلاقته مع الوسط الثقافي، وما يظنه [سهولة الوصول إلى الوسط]
ونعم هذا حقيقي، ليس من الصعب على أي إنسان أن يدخل هذا الوسط الثقافي غير المنظم،
غير المتفق، والذي تعرض لما تعرض له من سحقٍ وتحييدٌ ممنهجين، أن يشقَّ المرء
طريقَه في هذا الوسط هذا شيء، أما أن يشقَّ طريقَه الخاص، ويحاول البحث عن صوتِه
الخاص، وتفرده فهُنا تأتي قصة الحياة التي تخوضها مئات العقول ولا ينجو منها كل
عشر سنوات سوى عدد قليل جدا من أولي العزم من المثقفين في عمان، لم نتجاوز حتى هذه
اللحظة فكرة الجدوى، وسؤال [لماذا!]، وأيضا، أنفقت ليترات لا بأس بها من الحبر
متوسط الجودة في التحسر على سبب غياب تأثير المثقف، فضلا عن دور الرقيبِ في جعل
التعبير عن الرؤى الثقافية مجازفة غير محسوبة، وهذا الرقيب متعدد الأدوار،
والطوائف، والجهات، وعدده كبير جداً وله مدرسةٌ غازية احتلَّت عقول الكثيرين حتى عمَّ
الخلطُ السرطاني بين ماهية النقد، والرقابة ومصادرة العقول وحق الإنسان في تكوين
رأيه الخاص! ردات الفعل على مدِّ اليسار العالمي الجديد تكفي لكي توضحَ لنا ماهية
الخلط الكبير في عُمان بين النقد والرقابة! ولهذا مأساة أخرى.
بعد كل هذا السرد الوصفي، من عساه سيؤمن بحركة الثقافة العُمانية؟ يأتي
البعضُ بكل حماسةٍ ويقول [الثقافة بحاجة إلى دعم]، وهذا صحيح نسبيا، ولكن أي دعم
بالضبط؟ ذلك المتمثل في السباق على تذاكر سفر لندوة خارج عُمان، أو للرياسةِ على
جموع المثقفين؟ أي نوع من الدعم بالتحدث نتحدث عنه؟ لا سوق للصناعات الإبداعية،
ولا حركة واضحة تدفعُ للاستمرار في شؤون صناعة النص، والصورة، والفنون التشكيلية
وغير ذلك، هذا صنعَ فئةً قليلةً توافقت مع التوجه الرسمي، واكتفت بالبقاء في دائرة
البقاء، الصراعُ الكبير للعقل الفرد في عمان، أين يولي وجهه وأين يذهب؟ هذه هي
معضلة المثقف الفرد في عمان، وأسئلته المتعلقة بالجماعة الكبيرة للثقافة، وارتباطه
بها بشكل ما أو بآخر، ارتباط متصلٌ من حيث التعريف، ومنفصل من حيث السلوك.
شاءت الظروف أن توفِّر ظروفاً جيدةً للفردِ ليشق طريقه بمفرده، كل هذا
السرد المأساوي أعلاه لم يفرز ظروفاً ثقافية سيئة للمثقف الفرد، والثقافة ظاهرة
فردية تبدأ مشاكلها دائما بعد أن تتحول إلى جماعات، واصطفاف، وأفراد فارقون لا
ينجو كثيرٌ منهم من صراع الصفائح التكتونية في المجتمع العُماني، وفي الدولة
العُمانية بشكل عام، لعل المواجهات مع السلطة وما آلت إليه قد أثبتت خطورةَ ذلك
على المثقف الفرد بشكل عام، ولا سيما هذا المشاغب الذي يريد التغيير، أو الذي
يرفعُ راية [الحقيقة أولا]. المثقف السياسي، والناقد التاريخي، وناقد شؤون المجتمع
من أكثر المسارات مأساوية وصعوبة في عُمان، أما هذا المبدع، أو الشاعر، وغيرها من
فنون الإبداع، فالخيار المطروح هو أن يكون رومانسيا، وأن يكمل حياته في بركة
اللازورد، هذا هو الخيار الآمنُ. مع ذلك، هل كل ذلك مأساوي؟ ليس مأساويا على
الإطلاق، مثل هذه الظروف ملائمة جداً ليصقل المثقف الشاب في مقتبل العُمر ذهنَه،
وقلمَه، أو ريشته، أو آلته الموسيقية ليدخل تحديات التأسيس، وأي مهمةٍ ثقافيةٍ أجمل
من المشي في ورقة شبه بيضاء!
مثل هذه القرارات بحاجة لحسم! ما الذي يختاره المثقفُ لنفسه! أن يكون
محلياً، يتحرك في محيطه الاجتماعي، ويؤسس قدر الإمكان لحركة ثقافية متنوعة، متصالحة
مع حقيقة اختلاف الانتماءات، وتشملُ الجميع، أم يذهبُ مبكرا إلى سعيه بأن يكون
[عالميا] أو في خطاب آخر [كونيا، تاريخيا] ويلاحق الخلود. إن إسبابا كثيرةً منعت
وجود مثيل لماركيز في عُمان، فماركيز ليس ظاهرة جينية فحسب، هُناك منظومة كاملة
سمحت له بأن يكون ماركيز، ولعل المنظومة نفسها التي أخرجت ماركيز من حدود كولومبيا
هي نفسها التي نسفت، وقمعت، ودفنت عشرات [الماركيزات] الذين لم يتمكنوا من النجاة
من ظروف الحياة المريرة.
الحديث عن الثقافة في عُمان لا يخلو من جلدِ الذات، ولا سيما من ناحية
الثقافة الحداثية قليلة العدد، قوية التأثير. تعددت الأوساط الثقافية في عُمان،
ولا تكاد تجد حبال وصلٍ بينها، الأقوى في المعادلة هي الثقافة المنبثقة من الهوية
الدينية، ثمَّ تلك المرتبطة بالاشتراطات الرسمية، وأخيراً تلك [البؤرية] التي
تتوزع في بؤرة ناشئة تتوزع على أرجاء عُمان كافَّة. جيلٌ مضى بما له وعليه، وجيل
يأتي بما له وعليه، له اختيارات البدايات، وقراءة دروس الأجيال الماضية، وعليه ما
عليه من غياب التجربة. هي كلمة شائعة في أوساط الثقافة في عمان: لا أقرأ لكتاب
عُمانيين! لماذا لا تقرأ لكاتب عُماني: لأنه ليس ماركيز!
حكاية الثقافة في عُمان امتداد للواقع العماني الكبير، وبداية التأسيس
العمودي للفكر، وللثقافة في عمان. [تنمية] بكل بساطة! وتختلف نظريات كل إنسانٍ في
تحديد المقاربة المُثلى لهذه التنمية. يظنُّ البعضُ أن الثقافةَ زينةٌ جانبية
للمنظومة العُمانية الكبيرة، يفعلُ ذلك حتى يجدُّ الجدُّ وتظهر قيمة التنظير،
والنقد الفكري، وتظهر قيمة رفع سقف الجدال بين الفئات الفكرية، والأهم التعايش مع
سقفٍ عالٍ لتعبير الفرد بشكل عام، والمثقف بشكل خاص عن آرائه الثقافية في محيط
أساسه الاحترام والوعي والمهنية. من السهل أن يشطح إنسان فيقول: لكنك لست ماركيز
يا عزيزي! نعم، لم يوجد ماركيز العُماني حتى هذه اللحظة، الأهم حالياً هو الاتحاد
على صناعة المنظومة التي تكفل لمئات المثقفين في عُمان، ومئات الكتاب، ومئات
الفنانين الاستمرارية، هذا لن يحدث بدون حركةٍ ثقافية من المثقف، وإليه. الوضع
الحالي ليس مزريا، ولا يفي بالطموح الكبير، وهُنا ميزة التحدي الثقافي، وحاجته
للنفس الطويل، والباقي خيار في يد الفرد، هل تحرقُ المراحل وتلاحق العالمية،
والكونية، واللازورد، أم تتحمل ظروف المجتمع الذي تعيش فيه وتحاول أن تفعل شيئا ما،
لتساهم عضوياً في هذه المنظومة، لعلك وإن لم تستطع أن نفسك أن تكون ماركيز عُمان،
قد تصنع سُنَّة ما حسنةً تسمحُ لماركيز العُماني بعد عشرين، أو خمسين سنة أن يرى
اسمه ضمن المرشحين لجائزة نوبل! وإن قلتُ لي جائزة نوبل ليست مقياسا، سأقول لك بكل
لطف: لا بأس، ترشح لها أولا، ثم قل عنها ما تشاء! وهُنا، سأقعُ في الفخِّ الذي
أعترف بوقوعي فيه ضمن جموع الفئة الصابرة من الثقافة، قل ما تشاء عن جائزة نوبل:
ولكنك لست ماركيز يا عزيزي!
معاوية الرواحي