بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 14 فبراير 2024

صادق أم واضح؟

 في العلاقات البشرية، يحدث أن يحبك أحدهم، لأنَّك حسب وصفه "صادق" .. ونعم، هذا شائع بين الناس، من الذي لا يحب الصدق، ولكن هل الصدق في حد ذاته هو السبب أم الوضوح؟

قد تقول بكل "صدق" لإنسان آخر أنك تحبه لهذا السبب، لأنَّه شخص صادق، ولكن ما الذي يخفى وراء الصدق؟
الوضوح!
وهنا المعضلة، الجملة تتناول محبتك لإنسان صادق، لكن أيضا، ثمَّة أشياء زائدة في هذا الصدق، وهو الوضوح الزائد، الانكشاف المبالغ فيه، ويمكن أيضا أن نشطح ونقول: "التعري التام"

قد نصف هذا الانكشاف الزائد عن الحد بالصدق، ربما لأنه يروق لنا أن نتعامل مع الأشياء الواضحة، ليس لنزعة متعلقة بالقيم المطلقة، والعُليا، تلك القيم الإنسانية التي قد نظن أننا نمارسها، ولكن لشؤون نفعيةٍ بحتة، متعلقة بأنانيتنا، ورغبتنا في أن نعرف أكثر عن حياة الآخرين.

ممارسة الانكشاف الزائد عن الحد يكاد يكون خطأ وقع فيه جميع الناس، يكاد يكون الخطأ الأكبر الذي يندم عليه كثيرون، وكل لديه طريقة لحل ذلك، منهم من يصنع الأقنعة، منهم من يتحول شبحا، منهم من يرحلُ للأبد بعد أن يفقد ثقته في الذين انكشفَ أمامهم، ومنهم من يصنع عدة نسخ من نفسه، ينكشف نسخةً وراء نسخةً حتى تضيع حقائقه بين المتناقضات.

لا يمكننا أن نثق كليا في [تصديق الصدق]، لسنا ملائكة نحن بني الإنسان، وهذا الإنسان الصريح، المبالغ في الانكشاف لا يفعل شيئا جيدا لنفسه أو لغيره. حتى الصدق سكين متعدد الحدود، والذي ينكشفُ سواء بصدقه الصميمي، أو بصدقه المتلاعب قد يخفي وراءه إنسانا مضطربا، أيضا لديه ذلك الصدق مع الأشخاص الخطأ، وربما هذا [الصدق] فيما يخصك أنت، وآراؤه تجاهك، وربما تجاربه معك.

نعم، كم من هؤلاء الذين امتلكوا نقاء السذاجة، أو سذاجة النقاء وجدوا هذا الحب الوفير والبالغ، ذلك الحب الذي أوردهم المهالك، وجعل حياتهم مشاعا للعابر والسائر، كم من هؤلاء! انتقلوا من هذا النقاء الضار إلى الضرر النقي!
كم هو صعب أن تعرف بشراً من هذا النوع، وتدرك في قلبك أن هذا النقاء مؤقت لا أكثر، إما أن تلطخ الصدمات زجاجهم الناصع، أو ما هو أسوأ، أن ينكسر ذلك الزجاج ليتحول إلى غبار يجرح المآقي، من السهل أن نحب هؤلاء الصادقين بمعنى الكلمة، ربما لأنهم لا يعرفون هذه الخسارات، ولا يفهمون بعد تلك أثر وضوحهم عليهم، الوضوح المبالغ فيه مرض مثل الصدق المبالغ فيه، مثل الكذب المبالغ فيه، مثل الغموض المبالغ فيه.

أن تحبَّ أحدهم لأنه صادق، هذا لا يجعلك ملاكاً يبحث عن النقاء، قد يكون السبب لأنَّك تجد سهولةً في حماية نفسك منه، لأنَّك من الأساس ممتلئ بالريبات تجاه الجميع، لذلك نحب هذه الشخصيات العفوية، لذلك نحب شعبان عبد الرحيم، لذلك نرى شخصيات كثيرة في محيطنا الذي نعرفه بشكل مباشر أو المحيط الذي نعرف عنه ونتفاعل فيه، لكن تذكر، أن تنبش في نفسك جيدا، هل تحب الصدق؟ أم الوضوح؟
هل يروق لك انكشاف المخفي من حياةِ الناس، أما تروق لك الحقيقة؟ في كل الأحوال، عواصف الصدق جميلة في الأدب، وفي الشعر، وفي الحياة.

لا بدَّ أن يتعلم كل هؤلاء الذين جرحهم حسن ظنهم بالحياة الدرس. وهؤلاء الذين يقولون كل ما يريد الآخر سماعه سيصلون إلى تلك اللحظة ويكتشفون أن النفس البشرية مليئة بالمشاكل، فالطيب قد يحسد، والنقي قد يحقد، والصديق قد يتحول عدوا، والذي كنت تظن به الخير قد يفعل الشر، أليس هذا هو مشوار الحياة القاتم؟ المليء بالاكتشافات المربكة؟

الصدق منجاةٌ في حين، ومهلكة في أحايين، عندما يتعلق الأمر بحقك فيه، يختلف عن استحقاقك، ولهذا لا يتعب الفضوليون من النبش في حيوات الآخرين، فالوضوح مريحٌ عندما تكون إنسانا مليئا بالربكة الداخلية، لذلك اسأل صوتك الداخلي دائما: هل أحب الصادقين لأنني منهم؟ أم لأنني لا أستطيع أن أكون منهم؟ وهل أبقى قريبا منهم من أجلهم؟ أم من أجلي؟

والأهم: هل أستطيع أن أقول: لا! لا للحظةِ صدق أعلم أن صاحبها يعيشها في مكان خطأ وفي لحظة خطأ ومع شخص خطأ؟ هنا تتمايز أشكال الصدق، وتأخذ صفة النافع، والصالح، والضار، والمدمر، والمجازف، والمغامر، والمخاتل، والمتلاعب، والحقيقي، أو الصدق اللحظي الذي يصدق صاحبه ما يعيشه ليتضح لك أن ذلك الصادق كان يعيش وهما يصدقه، وهكذا تأخذ تجربة الوعي بالبشر تجربةً أخرى مغايرة، يحددها السياق، وتغيرها الظروف!