بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 29 أغسطس 2024

كل إنسان يحتاج لمساعدة!

 واقع الصحية النفسية في المنطقة العربية لا يمكن أن يوصف بأقل من كلمة "المحزن" والأسباب لا تخفى على أحد. ولست بصدد الكتابة عن الوصمة المتعلقة بالأمراض النفسية، ولا بصدد الحديث عن تحول مؤسسات الرعاية الصحية النفسية إلى مزارع أموال تتاجر بمشاعر اليائسين، ولا كيف أنَّ هذا العالم لا يخلو من الاستغلال، سواء للمدمنين، أو للمرضى النفسيين، فضلا عن ما يحدث للذين يعانون من التخلف العقلي، والقصور في النمو من تخلٍ، فيرمون أحيانا في مستشفيات تعيسة التمويل، ويكملون حياتهم في سجنٍ على هيئة مستشفى، هل هذه الحياة جميلة أو نظيفة بما يكفي لكي نظن بها خيرا؟ وأنَّ الذي يفقد أهليته سيجد بالضرورة حقوقه! كلا! هذا العالم ليس نقيا بما فيه الكفاية ليحدث هذا للجميع!


لذلك عليك أحيانا كمتخصص في الصحة النفسية أن تأخذ الأمر حالةً بحالة، أن تشرح بلا توقف معنى العلاج النفسي، والتدخل النفسي، والفارق بين الطب النفسي وبين الأخصائي النفسي، ودورهما المشترك في صناعةِ طمأنينة واستقرارٍ لمريضة أو لمريضة، لمدمنٍ أو لمدمنة، لمنهارٍ بسبب وفاة قريب، أو لشخص يعاني من نوبةٍ تعود له بين الفينة والأخرى، لو لمريض منتكس ترك أدويته من تلقاء ذاته والنتيجة أنه يدفع الثمن على هيئة نكسة مرضية قد تؤدي إلى خسارته لعمله، أو لدخوله السجن، أو لتعرضه للنصب والاحتيال من قبل الذي يجيدون استغلال البشر، هذا إن لم نتحدث عن المصائب الكبرى، كالاتجار بالبشر، أو بيع أعضائهم.

التصور النمطي عن الأدوية! عاقلٌ يفهم الحياة يتعامل مع الموضوع كأي جاهل! "لا تأخذ أدوية" افعل أي شيء ولكن لا تأخذ أدويةً!! السؤال ليس هو هل تأخذ أدوية أو لا، الممارسة المبنية على تخدير المريض من أجل مصلحة الذين حوله هذا سلوك اجتماعي اضطراري يحدث نتيجة وجود قصور في الرعاية المتكاملة، والتداخلية. إن كنت ستقابل المريض مرة كل عدة أشهر، فأي مقاربة ستتخذ؟
المقاربة المتكاملة، مبنية على مراجعات متقاربة، ومراجعة دائمة للجرعة، وجلسات مع الأخصائي النفسي، بل ومقابلات لأفراد العائلة؟ ولكن لماذا يحدث ذلك؟ لأنك تنظر للأمر من منظور حقوقي بحت.
المريض النفسي إنسان، يحق له أن تكون له أحلام، يحق له أن يدرس، وأن يحاول الحياة، وأن يكون حياةً. إن كنت تنظر له من هذا المنظور فماذا يعني ذلك؟ يعني أن تقدم له نظاما متكاملا يسمح له أن يعيش هذه الحياة محميا من نفسه ومن غيره. ولكن ماذا لو أنت لم تكن تنظر له بهذه النظرة؟
دخل حالة ذهانية، وبدأ يرى خيالات، حكمت على أحلامه، ومهاراته، وقدراته، وطموحه بالإعدام! اسمه [مجنون] اسمه [مريض عقليا] والجاهلُ لديه مبالغةٌ في إلغاء حقوق الذين فقدوا السيطرة على عقولهم، شيء آخر مؤسف في هذا العالم.

الذين يعانون من الأمراض النفسية أولا هم المرضى أنفسهم، والذين يدخلون بعدهم في المعاناة هُم أهاليهم. ما شعور زوج يرى أمَّ أطفاله الثلاثة وهي تدخل في نوبة هوسٍ، أو تعاني من تقلبات الوسوس القهري، أو تتعايش مع اضطرابٍ جسيم في الشخصية! هذا القلق في حد ذاته يحتاج إلى عنايةٍ ورعاية، يحتاج إلى أن تجد المتخصص المناسب الذي يساعدك على رعاية المريض! هل رأيت كم الأمر متداخل، وكم يحتاج للعناية والدعم!

ثمة ظنون خاطئة تجاه موضوع العلاج بالأدوية. بعضها صحيح جدا، بعض المؤسسات الطبية تعطيك الدواء الذي يجعلك تعود لها، ولكن هذا لا يشمل الجميع، ثمة طبيب أمين ومخلص لمهنته ويعطيك الدواء الذي يناسبك، وليس الدواء الذي تتعود عليه، وبشكل عام هذا موضوع جدلي كبير، السؤال هو: هل ستجعلني هذه الأدوية أتحسن!
الأدوية ليست العصا السحرية التي ستجعلك بخير وفق المتعارف عليه نمطيا، حبَّة السكّر تضبط نسبة السكر في الدم، وتحميك من النهايات المريرة للفشل الكلوي، ولإصابات الأعصاب، ولتأثر العين، كدواء الضغط، ثمة أدوية تقوم بهذا الدور ليس لأنك [مريض] ولكن لتجنب ما هو أشد وأنت تعيش قلقا هائلا، أو اكتئابا حادا بعد وفاة زوج أو زوجة، أو أب أو أم.
سيقول لك الجاهل: تجاوز كل هذا بنفسك، لا تذهب لطبيب نفسي!

السؤال هو: ستة أشهر؟ أم ثلاثة أشهر؟ هذا ما يفعله الدواء أحيانا، يقلل المدة التي تحتاجها قبل أن تعود إلى سائر أيام حياتك ووقتك العادي اليومي! عندما يتعلق الأمر بأشياء كثيرة عارضة، مقابلتك لطبيب نفسي وحصولك على تدخل دوائي [مؤقت] قد يوفر عليك الوقت، ويعطيك مقاومةً للنكسة التي تعيشها! وركز في كلامي، أتكلم هنا عن الشخص الذي لا يعاني من مرض نفسي مشخص رسميا، أتكلم عن أي إنسان عادي، فكرة أن تذهب لأخصائي نفسي مرة أو مرتين في العام، أو أن تقابل الطبيب إن شعرت أن قلقك أو اكتئابك أو نومك أو شهيتك أو أشياء كثيرة دخلت حالة مقلقة لا تختلف عن ذهابك لطبيب الأسنان، لو كنت من النوع الذي يذهب إلى طبيب الأسنان بعد تحول الفجوة إلى التهاب مزمن في العصب، وتذهب فقط للخلع أو لنزع العصب، يمكنك أيضا أن تفعل ذلك تجاه صحتك النفسية، هذا خيارك! فقط، افصل هذا الاختيار عن تحيزاتك تجاه الآخرين. لو كان لديك صديق يذهب لسد فجوات أسنانه أولا بأول، ويحاول الحفاظ على أسنانه بعيدا عن الخلع فلن تطلق الأحكام عليه، لكن لو كان هذا الصديق يذهب لزيارة أخصائي نفسي، أو طبيب نفسي مرة كل ستة أشهر! ماذا ستفعل؟ ستسخر منه أليس كذلك؟ ستقول له: "تعصب رأسك ورأسك صحيح". الذي عليك أن تقابله مرة في العام، وتصنع معه صلةً تسمح له بمساعدتك هو الأخصائي النفسي. ليس لأنك تعاني من مشكلة، ولكن لأنَّك قد تحتاج لإنسانٍ مؤتمنٍ على خصوصياتك يعرف ملفَّك، وبناه بشكل متكامل في وقت لاحق. نوع من "التأمين" على صحتك، أن تخوض غمار الجلسات النفسية فقط بعد حدوث المشكلة، هُنا أنت تؤجل الأثر العلاجي. الصواب من أجل صناعة صمام أمان نفسي هو أن تكون لديك هذه العلاقة مع مركز صحي نفسي، أو مع أخصائي نفسي بعينه، وتزوره دوريا كما تفعل مع طبيب الأسنان، إن كنت بخير، ربما تزوره مرة كل عدة أشهر، وإن شعرت أن وضعك يتدهور تكثف هذه الزيارات وتتلقى العلاج مع أخصائي كوّن نظرةً عامَّة عنك ويعرفك جيدا كعميل. وأنت بخير، هذا هو الوقت الذي تتعلم فيه عنايتك بصحتك النفسية، وأنت بخير! نعم، أعيدها، وأنت بخير. الدعم والإرشاد النفسي العلمي والمنهجي والأمين قادر على أن يجعلك إنسانا أفضل، أكثر سعادة، قادر على أن يجعلك أكثر إنتاجيةً، وأن يجعلك زوجا أفضل، وأن يحل المشكلات الصغيرة وهي تتكون، أن ينبهك إلى السلوكيات التي قد تتحول لاحقا إلى مشاكل تلاحقك، هذه مهمة العناية الدورية بأنفسنا، ونحن نفعل ذلك بشكل ما أو بآخر مع مختلف الأشخاص في حياتنا، ومنهم الأصدقاء! الفرقُ بين الصديق وبين الأخصائي النفسي أن الثاني لديه نظرة واضحة وقانونية تجاه ما هو مرضي وما هو مقلق وما هو خطر. مقبل على الزواج؟ تزوجت قريبا وتفاجأت أن الزواج به مشاكل؟ دخلت وظيفةً جديدة بها ضغط شديد وسهر؟ تعاني من مشاكل في النوم والشهية؟ أشياء كثيرة يمكنك أن تفيد بها نفسك فقط لأنك تقابلا أخصائيا مرة في الشهر!
أشياء كثيرة يمكنك أن تجعلها أسهل، أو أجمل، أو أقل تعبا فقط لأنك تخوض هذه التجربة لعدة جلسات، ستعرف بعدها أن فكرتك عن العلاج النفسي، والإرشاد النفسي، والدعم النفسي، والاختبارات النفسية، واختبارات الشخصية وأشياء كثيرة قابلة على جعل حياتك أفضل! فقط عليك أن تكسر هذا الحاجز وتعرف أن مكانا ما لك يسمح لك أن تجد علاجك بعيدا عن شعورك بأن ما تعاني منه سيبقى دائما شيئا تعاني منه كسر مؤلم أو كخجل شديد من أن تقول: أنا أحتاج للمساعدة!