واقع الصحية النفسية في المنطقة العربية لا يمكن أن يوصف بأقل من كلمة "المحزن" والأسباب لا تخفى على أحد. ولست بصدد الكتابة عن الوصمة المتعلقة بالأمراض النفسية، ولا بصدد الحديث عن تحول مؤسسات الرعاية الصحية النفسية إلى مزارع أموال تتاجر بمشاعر اليائسين، ولا كيف أنَّ هذا العالم لا يخلو من الاستغلال، سواء للمدمنين، أو للمرضى النفسيين، فضلا عن ما يحدث للذين يعانون من التخلف العقلي، والقصور في النمو من تخلٍ، فيرمون أحيانا في مستشفيات تعيسة التمويل، ويكملون حياتهم في سجنٍ على هيئة مستشفى، هل هذه الحياة جميلة أو نظيفة بما يكفي لكي نظن بها خيرا؟ وأنَّ الذي يفقد أهليته سيجد بالضرورة حقوقه! كلا! هذا العالم ليس نقيا بما فيه الكفاية ليحدث هذا للجميع!
لذلك عليك أحيانا كمتخصص في الصحة النفسية أن تأخذ الأمر حالةً بحالة، أن تشرح بلا توقف معنى العلاج النفسي، والتدخل النفسي، والفارق بين الطب النفسي وبين الأخصائي النفسي، ودورهما المشترك في صناعةِ طمأنينة واستقرارٍ لمريضة أو لمريضة، لمدمنٍ أو لمدمنة، لمنهارٍ بسبب وفاة قريب، أو لشخص يعاني من نوبةٍ تعود له بين الفينة والأخرى، لو لمريض منتكس ترك أدويته من تلقاء ذاته والنتيجة أنه يدفع الثمن على هيئة نكسة مرضية قد تؤدي إلى خسارته لعمله، أو لدخوله السجن، أو لتعرضه للنصب والاحتيال من قبل الذي يجيدون استغلال البشر، هذا إن لم نتحدث عن المصائب الكبرى، كالاتجار بالبشر، أو بيع أعضائهم.
التصور النمطي عن الأدوية! عاقلٌ يفهم الحياة يتعامل مع الموضوع كأي جاهل! "لا تأخذ أدوية" افعل أي شيء ولكن لا تأخذ أدويةً!! السؤال ليس هو هل تأخذ أدوية أو لا، الممارسة المبنية على تخدير المريض من أجل مصلحة الذين حوله هذا سلوك اجتماعي اضطراري يحدث نتيجة وجود قصور في الرعاية المتكاملة، والتداخلية. إن كنت ستقابل المريض مرة كل عدة أشهر، فأي مقاربة ستتخذ؟
المقاربة المتكاملة، مبنية على مراجعات متقاربة، ومراجعة دائمة للجرعة، وجلسات مع الأخصائي النفسي، بل ومقابلات لأفراد العائلة؟ ولكن لماذا يحدث ذلك؟ لأنك تنظر للأمر من منظور حقوقي بحت.
المريض النفسي إنسان، يحق له أن تكون له أحلام، يحق له أن يدرس، وأن يحاول الحياة، وأن يكون حياةً. إن كنت تنظر له من هذا المنظور فماذا يعني ذلك؟ يعني أن تقدم له نظاما متكاملا يسمح له أن يعيش هذه الحياة محميا من نفسه ومن غيره. ولكن ماذا لو أنت لم تكن تنظر له بهذه النظرة؟
دخل حالة ذهانية، وبدأ يرى خيالات، حكمت على أحلامه، ومهاراته، وقدراته، وطموحه بالإعدام! اسمه [مجنون] اسمه [مريض عقليا] والجاهلُ لديه مبالغةٌ في إلغاء حقوق الذين فقدوا السيطرة على عقولهم، شيء آخر مؤسف في هذا العالم.
الذين يعانون من الأمراض النفسية أولا هم المرضى أنفسهم، والذين يدخلون بعدهم في المعاناة هُم أهاليهم. ما شعور زوج يرى أمَّ أطفاله الثلاثة وهي تدخل في نوبة هوسٍ، أو تعاني من تقلبات الوسوس القهري، أو تتعايش مع اضطرابٍ جسيم في الشخصية! هذا القلق في حد ذاته يحتاج إلى عنايةٍ ورعاية، يحتاج إلى أن تجد المتخصص المناسب الذي يساعدك على رعاية المريض! هل رأيت كم الأمر متداخل، وكم يحتاج للعناية والدعم!
ثمة ظنون خاطئة تجاه موضوع العلاج بالأدوية. بعضها صحيح جدا، بعض المؤسسات الطبية تعطيك الدواء الذي يجعلك تعود لها، ولكن هذا لا يشمل الجميع، ثمة طبيب أمين ومخلص لمهنته ويعطيك الدواء الذي يناسبك، وليس الدواء الذي تتعود عليه، وبشكل عام هذا موضوع جدلي كبير، السؤال هو: هل ستجعلني هذه الأدوية أتحسن!
الأدوية ليست العصا السحرية التي ستجعلك بخير وفق المتعارف عليه نمطيا، حبَّة السكّر تضبط نسبة السكر في الدم، وتحميك من النهايات المريرة للفشل الكلوي، ولإصابات الأعصاب، ولتأثر العين، كدواء الضغط، ثمة أدوية تقوم بهذا الدور ليس لأنك [مريض] ولكن لتجنب ما هو أشد وأنت تعيش قلقا هائلا، أو اكتئابا حادا بعد وفاة زوج أو زوجة، أو أب أو أم.
سيقول لك الجاهل: تجاوز كل هذا بنفسك، لا تذهب لطبيب نفسي!
أشياء كثيرة يمكنك أن تجعلها أسهل، أو أجمل، أو أقل تعبا فقط لأنك تخوض هذه التجربة لعدة جلسات، ستعرف بعدها أن فكرتك عن العلاج النفسي، والإرشاد النفسي، والدعم النفسي، والاختبارات النفسية، واختبارات الشخصية وأشياء كثيرة قابلة على جعل حياتك أفضل! فقط عليك أن تكسر هذا الحاجز وتعرف أن مكانا ما لك يسمح لك أن تجد علاجك بعيدا عن شعورك بأن ما تعاني منه سيبقى دائما شيئا تعاني منه كسر مؤلم أو كخجل شديد من أن تقول: أنا أحتاج للمساعدة!