إنَّه يومي الثاني بلا تدخين. تغيرت العادة فقط
ولم تتغير المادة الإدمانية. الذي كان يغزو الجسد عن طريق الرئة أصبح يستأذنه عن
طريق الفهم. منتجات بديلة، طبية وأخرى شعبية، وكلها تصب في الهدف نفسه، إيقاف
استهلاك الرئة، وإدخال الدخان إليها. وماذا عساك أن تدخن؟ السجائر؟ أو تلك
الإلكترونية التي لا تخلو من أخطارها الأخرى. تدهشك بتجمع سوائل في الرئة فتضرب
الأخماس في الأسداس وتتساءل: ما الذي جعلني أتقبل هذا الموت البطيء طوال هذه
السنين؟
واقعيا، ومنطقيا قد أكون دخلتُ منطقة الخطر
الأخير دون أن أعلم، قد تكون جينات الرئة قد تغيرت، لا أعرف هل هي الجينات أم
الكروموسومات، أم شيء ما له علاقة بالحمض النووي الوراثي، الذي أعرفه وليست لدي
رغبة الآن في [جَوْجَلَتِهِ] هو أنَّ التغييرات التي تؤدي للسرطان قد تحدث، وقد
تؤدي إلى السرطان حتى بعد الانقطاع عن التدخين بسنوات، إن كنت تريد معرفة الحقيقة
فوفّر عليَّ ذلك وابحث عنها بنفسك عزيزي القارئ، لست هُنا لكتابة نص علمي مُتقن،
هُنا أنحت مفهوماً شخصيا، شيئا يساعدني لاحقا على مواجهة الهجمات العدمية، وتلك
المفعمة بالاستخفاف بالعواقب، تلك التي ستأتي بعد شهرين من الآن. إن نجوتُ من العودةِ
إلى التدخين لشهرين، وقتها سيبدأ التحدي الصعب، وأسئلة الإدمان العميق!
هل هناك حقا إدمان عميق وإدمان سطحي؟ يخيِّل
لي هذا وأنا أنظر إلى عدة عوامل مختلفة بين إدمان وآخر. هل يمكنني أن أقول عن
إدمان الكوكايين أو الشبو إدمانا عميقا! لا يبدو عميقا، يمتد لسنوات، وقد يحدث ذلك
في ظروف خاصة جدا، هذه الإدمانات غير القانونية والتي تحيط بها العواقب من كل حدب
وصوب قد تصيب الجهاز العصبي في مقتل، تصيبه بتلف دائم، لكن هل هي عميقة عُمق إدمان
مسموح؟ إدمان القهوة مثلا؟ إدمان دوبامين الشاشات، ومواقع التواصل الاجتماعي؟
أيهما أعمق حقا! يأخذني عقلي إلى الاستنتاج أنَّ إدمان القهوة أعمق بكثير، وأكثر
تغلغلا من إدمان المورفين حتى! كم عساك أن تدمن المورفين، أو الهيروين قبل أن تصل
إلى نقطة الخطر! حتى إدمان الحشيش، لا أتذكر أنَّه كان عميقا لهذا الحد، يعطل
الحياة اليومية، يلفت الانتباه، يغير طريقة التفكير، لعله أعمق من الإدمانات
الأخرى، ولكن هل هناك إدمان أعمق من القهوة؟ والشاشات؟ والنيكوتين؟ لا أظن!
التدخين إدمان عميق للغاية! ولذلك محاربته تحتاج إلى تجهيزات فكرية ومجادلات
دفاعية، فالهجمة لا تحدث الآن.
إنه السنة الخامسة لي وأنا أدخل حالة الإرادة
هذه، أنجح وأخفق. أحاول تحويل فشلٍ متعدد الأركان إلى نجاح تعويضي، هذا ما أفعله
مع جسدي الذي أرهقته بسنوات من سوء الاستخدام. تعافيت بنجاحٍ مُرضٍ من استخدام
طويل المدة لمخدر الحشيش. عادات كثيرة تغيرت، صرت رياضيا، تغيرت أشياء كثيرة بي،
عدت للدراسة، فعلت أشياء جيدة كثيرة، وبقيت هذه العادة الملعونة التي تعبر عن فشلي
الرئيسي الذريع في هذه الحياة. كنت أعلم قبل عشرين سنة أنني سأندم كثيراً على
دخولي عادة تدخين السجائر، كنت أعلمُ وأنا أورط نفسي بمادةٍ هجومية متوحشة متغلغلة
يدعمها شيطان رأسمالي جعلها مباحة قانونيا أنَّ اليوم الذي أندم فيه وأحاول التخلص
من هذه العادة سيأتي. كم محاولةً حتى الآن؟ عشر؟ عشرون! لا أظنها تقلُّ عن
العشرين! وفي كل مرة أتعلم شيئا جديدا، طريقة جديدة لزيادة عدد الأيام الأولى.
ودائما النهاية نفسها تحدث!
لدي خبرة كبيرة جدا في الانقطاع عن التدخين لمدة
شهرين أو ثلاثة. لهذا أنحت الآن هذا المصطلح الذي لم أبدأ النبش عنه حتى الآن،
لعله يستخدم في سياق آخر في أدبيات علمية أخرى. أميل إلى تسمية استهلاك النيكوتين
عبر الرئة بالإدمان العميق! لأنَّه حقا متغلغل، مثل سوسة النخيل التي صنعت مساراتها
في جذع النخلة! هل ستقطع جذع النخلة فقط لأن السوس قد هجم عليها؟ ستتركها، ستحاول
رش مناطق العدوى، ستفعل الكثير، لكنك لن تقطع جذع النخلة! تشبيه قد لا ينطبق كثيرا
على هذه العادة المباحة، ومن يعلم حياة المدخن غير المدخن؟ الحياة المُضافة،
النشاط الإضافي، الاستيقاظ السريع، الهجمة السريعة على القلق، والاكتئاب، التخلص
من عناء يوم مرهق، القراءة مع السيجارة، القهوة مع السيجارة، الكتابة مع السيجارة،
هل عرفت لماذا أسميه بالإدمان العميق؟ لأنه يتغلغل ويرافق العادات مثل الآفة
الضارة التي تضع بيوضها وتنمو يرقاتها في أنسجةٍ أخرى. وتمضي السنوات، وتتكاثر هذه
اليرقات الفكرية في عقل المدخن، فيقبل السرطان، ويقبل ضعفه، ويقبل المصير النهائي
المحتمل للمدخن، ومع ذلك، يبقى يلف ويدور ويضرب الأخماس في الأسداس، يقطعُ لبعض
الوقت ثم تهجمُ عليه هجمات التفكير العدمي فيعود لعادته السابقة مفتقدا حياته
المضافة، ذلك المنشط الكيماوي الذي تدخل في سلوكيات كثيرة في حياته.
أيشعر شارب القهوة المتطرف بهذا الشعور عندما
يصاب بالقرحة مثلا؟ أن إدمانا عميقاً منحه حياةً مضافةً يُسحب من حياته. لا أجد
إدمانا شبيها للسجائر مثل إدمان القهوة، أو إدمان الشاشات هذا الذي يجعلنا بهلعٍ
نفتح [الواتساب] بذعرٍ شديد وكأننا نخاف أن يفوتنا شيء ما. منصات رقمية مصممة بعناية،
مثل السجائر، لنستخدمها فنعود مشبعين بشيء ما، شيء ما من القلق المختلط بالراحة،
من الانتباه المختلط بالشعور بالحياة الاجتماعية، أننا نرى الحياة من شُرفة تُطل
على الكوكب كاملا! وتغرس العادة نفسها لسنوات وسنوات، يرقات الأفكار/الآفة تصنع
مساراتها في جسد فلسفة الحياة، فنقبل هذا القلق العارم، ونتصالح معه، بل ونتصالح
مع هاتف سخيف للغاية لا يحتمل يومين دون أن تفرغ بطاريته فيعيدنا رغما عن أنوفنا
إلى مدنية الكهرباء، خاضعين، مذعنين، نقبل هذا الشتات، ننفصل عن حرية الطبيعة،
نخترع الطرق التي تأخذنا إلى رحلةٍ صغيرة، مصطحبين بنوك الطاقة، ووسائل الشحن،
ونحن في هذا الذعر، والرعب من فوات أي شيء، يدخل هذا الكابوس لكي يمنحك وسيلة
راحةٍ من هذا القلق العالمي! إدمان عميق لتهدئة قلق إدمان عميق آخر، وهكذا دواليك،
ننهرس تحت وطأة هذه العادات التي جعلتنا ما نحن عليه من كوكب فرداني متنصل، لكل
إنسان صوت، لكل إنسان رأي، لكل فردٍ حياته المنعزلة وفي الوقت نفسه المتفاعلة مع
كل ما يشبهه، ومن يشبهه في فضاء البسيطة الملغوم بالحروب والنزالات الفكرية!
هذه معركتي، التي عشتها مع السكّر، والقهوة،
وتويتر، والفيس بوك، والآن مع إدمان النيكوتين العميق! أصعب ما في الإدمانات
العميقة هذه أنَّها مباحة قانونيا، واجتماعيا. هل اتصلت بالشرطة ذات يوم لأنَّ مدمن
سكَّريات طلب عشر كعكات من [الدونات] وبدأ يأكلها بشراهة أمام عينيك؟ لن تفعل ذلك
ربما، وإن كنت مهووسا بإطلاق الأحكام قد تطلق تعليقا متنمراً، وإن كنت إنسانا طيبا
قد تنصحه بشكل ما أو بآخر. هذه معركتي! وأواجهها مضطراً، ولا أعرف متى كان يجب أن
أنتبه إلى أنني أصنع مشكلات عويصة تتفاقم مع تقدمي في العمر. قطعت شوطي الأوَّل في
مواجهة الإدمان المباشر، لا حشيش في حياتي، لكنني هل أستطيع أن أقول ذلك عن إدمان
الإنترنت؟ تحايلت على الأمر وحولته إلى مهنةٍ، كان هذا كافيا ليفقد الحضور الرقمي
متعته، ولتتحول الأيام التي أقضيها بعيدا عن تغذية هذه المنصات الجشعة، والشرهة بالمحتوى،
والكتابة، والتفاعل مع الناس! إن كان ولا بد أن أغذي عقلي دائما بشيء ذهني تفاعلي،
فليكن الكتابة، وإن كان ولا بد أن أغذي هذه المنصات بمحتوى تفاعلي فلتكن مهنةً. لم
أصب بالتعب، لكنني أصبت بفقدان الشعور تجاه جماليات جِدَّة كل ذلك. كيف لمدونٍ
محترفٍ أن يتعايشَ مع عاديةِ الإنترنت، التي كانت يوما ما ثورية، وتغييرية، وصرخة
في وجه تشابهات العالم وكثبانه الجمعية!
والآن ماذا؟ أعيش الفقرة الأخيرة في كتابِ
الزمن الجديد. أعيش امتدادَه وما أخذته منه ليكون معي في خريف العُمر، الواقع
الافتراضي في الطريق. سيكون صديق أوقات الفراغ الشحيحة. وماذا بعد؟ الذكاء
الصناعي؟ أصبح أداة جيدة توفر وقت [الجوْجَلَةِ] المحيرة بين المصادر والنسخ
المتعددة من الحقيقة الواحدة. في هذه التي اسمها "الأربعين" أدخل لليقين
الجميل أنه ربما لن أعيش أكثر مما عشت، وخلال عشر سنوات، أو عشرين إن كنت محظوظاً
قد أتدهورُ ما لم أتخذ قرارات حاسمة تجاه صحتي، التدخين قرار أوَّلي، إدماني
العميق، معركتي التي يجب أن أنتصر فيها إن أردت التفرغ لباقي المعارك الصغيرة. سيدفعني
إدماني العميق للحيرة، وسأضرب الأخماس في الأسداس، سيهاجم وقت الكتابة، ووقت
الأفلام، ووقت الفراغ، ووقت الحديث مع الأصدقاء، سيضرب ضرباته بضراوة، سيرفض حياةً
ناقصة، وستهجم، بعد شهر، أو شهرين! وأنا حائر، حائر ولا أعرف متى سأخفف من بدائل
النيكوتين، وماذا سيحدث لي مع كل تخفيف؟
ستكون معركة منطقية هذه المرة، لن تحل بالنسيان،
ولا بالتجاهل، ولا بالانشغال القلق بألف شيء، وأخشى أن أكتشف منطقة جديدة أستسلم
فيها، أو أن يصدق الكلام أن الإدمان جينات لا يمكنك أن تتصدى لها، وأن القهوة،
والنيكوتين، أو التدخين، والجلوس على المنصات الرقمية جزءٌ من المشهد الكبير، هل
سأنتقل من إدمان الرياضة إلى إدمان الجلوس على الألعاب؟ أدمن المذاكرة؟ ثم أدمن
النجاح؟ ثم أدمن الهرب، وهكذا دواليك، لأن الأمر أعمق من فهمي، لا أعرف! أشعر
بطمأنينة لأنني عدت للكتابة، هكذا بلا مؤثرات تعينني على إطالة ساعاتها قدر
الإمكان، أشعر بطمأنينة لأنني عدت لها دون أن أدمر حياتي الخارجية، وأصنع منها كل
ما يجعل عزلتي ملاذا، فعلت هذا من قبل، ولا أعرف ما الذي أفعله الآن. أريد أن
أكتبَ، والحياة لا تسمح لي بفعل ذلك بسهولة، ومع ذلك أكتب، ويوما ما لن أضطر إلى
توظيف الكتابة لترميم الدمار الذي عشته في حياةٍ شاقَّة، ومضنية. يوماً ما، سأكتبُ
وأنا أعلم أنني أترك رسالتي الأخيرة في هذه الحياة. يوما ما، سأكتبُ وأنا أشعر
أنني لن أحزن لو تركت الكتابة بعدها، يوما ما قد يكون قريبا أو بعيداً، سأترك
بصمتي التي لن أخشى بعدها من الموت، ولا أعلمُ كيف سأرحل عن الحياة، بجلطة، بحادث،
بنيزك، بمرض عضال، بموت سريع، بموت بطيء، هذه معركتي، في هذه الحروف، وما التصدي
لشيء سخيف من أشياء الحياة كالسجائر إلا واحدة من وسائل المقاومة لصناعة نهاية
جميلة تعطي معنى أجمل لكل هذا الوباء الذي اسمه حياة، وهذا الكابوس الذي اسمه:
الدنيا!
معاوية الرواحي
30/8/2024