أن تكون طالباً في الأربعين من العُمر جُملة
لا تخلو قليلا من مخالفة السائد من العموميات المطاطية التي نحب كبشر أن نلوكَها
توكيدا، أو تشجيعاً. نعم! تلك الذات المتعلمة لا تقف عن تعلم الجديد. نزعة الإنسان
لكي يعرفَ أكثر لا تتوقف. السؤال الحقيقي هو ليس عن ماهية هذه المعرفة، وإنما عن
كيفيتها. أن تمتثل طالباً أمام هيكلٍ تعليمي مادي كالجامعة، وهيكلٍ تعليمي آخر
كالمواد الدراسية معضلة أخرى، قد يجيب عليها إيلون ماسك بتفسيره أن الجامعة فرصة
للطلاب لإثبات قدرتهم على الالتزام بمواعيد، ودراسة أشياء لا تروق لهم بالضرورة.
لهذا السبب ربما آثرت إنفاق أربع سنواتٍ من العُمر لتتويج اهتمامي بعلم النفس
بشهادةٍ تخصصية، ولإنهاء رحلة طويلة من التعلم الذاتي قد لا تكون ملائمة للباقي من
سنوات العُمر التي تحتاج إلى مدينةٍ واحدة لا يكفي العمر لمعرفة سكانها أجمعين.
بين براثن المذاكرة، هذا العنوان الذي اقترحه
عقل صديق، شعور لا يخلو من مسٍّ من الغربة. أن تتعلم هذا شيء، أن تحاول الغوص لأعماق
أبعد من جلسة الغوص السابقة، هذا شيء أيضا، ولكن أن تقف أمامَ مهاراتِ التلقي
واضعا نصب عينيك هدفاً اسمه امتحان جامعي هُنا تأخذ الأشياء طابعاً معقداً بعض
الشيء. المذاكرة شيء ثقيل على النفس، لا أفهم حتى هذه اللحظة لماذا يجب أن نتجرع
الغصص هذا بروح النضال والتحدي، ثمَّة شيء مختلفٌ حقَّا. حتى تلك الموضوعات التي
نحبُّ أن نعرف عنها أكثر تتحول إلى واجبٍ ثقيل على النفس، وتنشأ من ذلك أسطورة
النضال الدراسي، وأوهام الطلَّاب الأقرب إلى عقولهم.
طرائق التعلم الأكثر فائدةً متناثرة في أرصفة
كتب علوم النفس التعليمية، وكتب التربية، بل وحتى في مناهج علم النفس المتعلقة
بالذاكرة، والنسيان، فضلا عن علم نفس التعلِّم، وعلم نفس النمو، وقليل من العلاقة
بين التكوين العصبي للإنسان وقدراته على التعلم، بين الحاسَّة والإدراك، بين
التلقي والتحليل والتفسير، وعلاقة العصبونات بما تفعله، بدماغنا وما يختزنه.
الطالب الذي يبحث عن الصواب الدراسي لن يعييه أن يجدَها جاهزاً. في عصرنا الحديث
العصارات المهارية، والعلمية متناثرة في كُل مكان، ولا أنسى الذكاء الصناعي وما
يضيفه الآن في سهولة البحث عن الحقائق العلمية، كل هذا جاهز ولكن أين المُهتم الذي
يذاكر كيف يذاكر؟ هذه في حد ذاتها معضلة أخرى من معضلات النضال الدراسي. الصواب
ليس صعباً. الصعب هو فعل الصواب! أليست معضلة بكل معاني الكلمة؟
أخذت معي فائدةً غير متوقعةٍ من الدراسة في
عُمر الأربعين، غير موضوع الشهادة ولعنتها الدائمة وشحوب إيمان أهمية المهارات على
النموذج الكلاسيكي لفكرة المتخصص. الفائدة تختصرُ في عودة هذه الجلسات المُخلصة
القسرية، وعلاقتها بالتعلم القسري. كطالب عليك أن تذاكر لأنك مهدد، تحت إكراه
الخوف من خسارة الدرجات، أو ما هو أشد، خسارة مادة من المواد، والفزع يتراكم
لخسارة الفصل، أو خسارة الرحلة الدراسية ككل. هُنا يُحمد الكذب على النفس، أنني
أحب هذه الرحلة، وأذاكر لأنني أتعلم! ياله من هراء أنيق!
براثن المذاكرة اختطافٌ مؤقت من كل مباهج
الحياة، والوقت الممتد. كسرٌ مُحكمٌ في سيرورة الوقت، ينجيك من الخوف الكبير
بالمخاوف الصغيرة. بشكلٍ ما أو بآخر تفتت (كمُذاكر تحت التهديد) ظلام الرعب الكبير
بالشموع الصغيرة وهي تتكامل داخل دماغك، ومع خبرتك (كمذاكر دقيق) تتخلق أمام عينيك
عقلية (المُختَبِر المحترف) فهذا سؤال سيأتي بدرجة واحدة، وهذه أسئلة سوف تأتي على
هيئة مقال يحتاج إلى صورةِ شاملةٍ تُفهَمُ لكي تُسكب لاحقاً على هيئة مقالٍ صغير
يكتبُ في امتحانٍ تُلاحقك فيه الدقائق والعموميات.
ذلك الإدراك البشري المفزع أنَّك تنسى سؤالٌ
لا يزول. المعارف التي تنالها تحت الإكراه والتهديد تختلف عن تلك التي تبحث عنها
كإجابات لمغناطيس الأسئلة الداخلية التي تتناطح في ذهنك. المذاكرة ليست إجابة على
طنين الأسئلة الوجودية التي تعصف بك قلقاً ونغصاً في هذه الحياة، هي تلاعبٌ بآلية
التذكر والنسيان، وفرصة ربما لطالب في الأربعين على تدريب عقله للمرة الأخيرة على
هذه المعمعة المنظمة بإتقان على هيئة خطة دراسية.
ثمَّة انطباع نمطي طريف يُختصر بجملة (طلاب
الداخلية). أؤمن مع الوقت بصحة هذا الانطباع. أقطع شوط عامي الثالث في تخصصي في
علم النفس. أكتشف استيقاظ ذلك الكائن الدراسي الذي كنت عليه يوما ما، ذلك الذي أخذني
إلى بداية طريق مستقبل مختلفٍ في كلية الطب، ويأخذني اليوم إلى طريق مستقبل أختاره
في تخصص علم النفس. سأذاكر لسبب ما أو لآخر، وسأهرب من المذاكرة لأسباب عديدة،
أبسطها أنَّ كل مشاغل الحياة المهمة تتقافز أمام عيني في اللحظة التي أبدأ فيها
جلسةً إجبارية أخرى تفتت حالة القلق التي ستنزل على كل حبي للحياة مع اقتراب حزام
الامتحانات، وعقاله، وحباله.
من تجربتي في المذاكرة لاحظت شيئا ما
يساعدني، ويصنع الزخم الذي أحتاجه لأنطلق. لا شكَّ أن بديهيات (ربما بدهيات أصوب) مثل
البدء بالمواد السهلة، أو اختيار المستساغ تمهيدا للعلقم القادم في نهاية جلسة
المذاكرة صوابٌ متداول ومتعارف عليه. الذي لاحظته هو أنَّ البدء بجلسة من تعلم آلة
موسيقية، وقليل من التدريب عليها، ثم تحفيز العقل بعدة مباريات من الشطرنج يصنع
لسبب ما أو لآخر بدايةً لسفينة المذاكرةً؛ لتخرج من الميناء الآمن، وتبحر في محيط
الوقت الضائع/ المثمر. ستفعل كطالب كل ما بوسعك لتتجنب الخروج من الميناء الآمن،
لكن ما لهذه بنيت السفن، وما لهذا خلقت العقول، أضع مجموعة أوهام منسوجة بعناية
قبل كل جلسة مذاكرة، وأقنع نفسي أنني أذاكر من أجل التاريخ، ومن أجل الإنسانية،
ومن أجل بقاء الكوكب البشري في كوكب الأرض، تحفيز سخيف لكنه ينجح دائما، أما في
حالة هذا المقال، كانت استجابة أخرى لفعل
أي شيء آخر إلا البدء في قراءة ذلك المنهج الدراسي الذي يحدّق بي بوجه متغّضن،
وواثق، يعرف جيدا أنه صاحب السيطرة على هذا الطالب الذي يغالب النفس بلا توقف لكي
يحقق نتيجة جيدة، وينهي هذه الرحلة بتفوق ونجاح.
معاوية الرواحي