عشتُ سنوات العشرين والثلاثين كائنا شديد القلق، بمعنى الكلمة شديد القلق، ولا أقصد ذلك القلق العادي، مثل الذي ينتظر امتحانا، أو متوتر أمام مقابلة عمل.
القلق، الوجودي، العاصف. ومهما تكن عند امرئ من خليقة، وإن خالها تخفى عن الناس تُعلم!
الجميع يعلم قلقي الشديد، ولا سيما تلك الفترة التي كنت أنسلخ فيها من كائن ساذج بمعنى الكلمة، سهل الخداع، عُرضة للسخرية، إلى هذا الكائن الذي أصبح قاسياً بشكل أنا نفسي صرت أخشى منه!
إنها السنة السادسة الآن منذ أن بدأت قراراتي تتخذ مساراً طبيعيا، وهادئا، اعتزال معمعة الرأي العام ومواجهات الخطابات، اعتزال بشر، ومنظومات، وقطع علاقات مع بشر إما بعداوة وخصومة، أو برماد اختلاف الاهتمامات، ولا سيما هذا الذي صديقك فقط وأنت من سجن إلى سجن، من مشكلة إلى مشكلة، لكن وأنت بخير! ينقلب عليك انقلابا يجعلك تتساءل، هل هو حقا صديق؟ أم إنسان يعيش جبنه، وخوفه، وكراهيته عبرك!
لم أكن أحسب أثر قلقي على حياتي الاجتماعية، وأنا إنسان لم يتغير كثيرا عندما يتعلق الأمر بما يمكن أن يفعله عندما يكتشف أنه خُدع، أو يتعرض للاستغلال، أو ينتبه ولو متأخراً إلى إنسان كان يراهنُ على وهم أنني شخص طيّب! غضبي عاصف، وأكاد أصفه بالخطير، واستعدادي للدفاع عن نفسي فعليا وعمليا لا أعبأ أن يوصلني حتى إلى موتي! لن أسمح لنفسي أبدا بأن أتقبل عدوانا من أي شيء، كما لن أسمح لنفسي أن أكون البادئ بالاعتداء! هكذا أعيش، لا ضرر ولا ضرار، وهذا ما أحاول أن أثبت عليه، أن أبقى في مححيط ردة الفعل فقط.
مع نهاية تلك المعمعة الشعواء، بدأت أكتشف ضرر القلق على العلاقات الاجتماعية التي حولي. وكيف إنه في عالم البشر الطبيعيين، كمية عالية من القلق تعني إفساد الجو تماما. أن تكون غاضباً من أي شيء هذا موضوع، لكن أن تفجر غضبك في النادل في جلسة عشاء مع الأصدقاء هذا شيء آخر.
فقط، بعض الهدوء الذي بدأ يكتنف حياتي بدأت أرى الجانب الآخر مما يسمى بشكل عام (العصبية) والتي قد تكون (العصابية) أقرب. وبدأت تجارب الحياة تظهر أمامي، هذا الذي وصل إلى منصب مرموق وأصبح عصابيا لا يُطاق، وهذا الذي لا تطيق أن تركب معه في سيارته من فرط ما يسب ويشتم كل أحد، مستعد لخوض أي معركة في الشارع، وهذا الذي من شدة الضيق يفتك بالطالع والنازل، ما أن يمسك لسانه موضوعا إلا ويجعل المكان خانقا، وسامّا، ولا يطاق.
الهدوء إجابات على أزمنة مصائبك. وهذه من الإجابات التي وصلتُ لها، وشكلت لي إجابةً عن السبب الذي جعل كثيرين بشكل مُحق يبتعدون عني تماما، هذه ضمن الخسارات الخفية لأي إنسان يختار عالم المواجهات العلنية، وسواء كان على حق، أو على باطل، إن كان العبء الانفعالي الذي عليه عاليا، سوف ينعكس على من حوله عاجلا أو آجلا.
إن كنت تتساءل لماذا ينفض الناس من حولك، ولماذا يدور حولك بعض القيل والقال، أو لماذا في حال مجيئك أو وجودك يتجنب البعض الحضور ليس لأنه يتخذ موقفك تجاهك، وليس لأنه يحسدك، فإن أحد الأسباب هي كمية العصابية التي تحقنها في الذين حولك.
وبالطبع، الحياة ليست رحلة رومانسية، الضغط النفسي الشديد يجعلك رغما عن أنفسك في هذه الحالة القلقة، والمعيار هو طول هذه المدة الزمنية، وتكرارها مع الأشخاص نفسهم، عامان من القلق الشديد وتجاوز الصدمة لا يمكنها أن تمر دون أن تحقق أثرا كاويا على علاقات تنشد الهدوء، والحكمة، والاتزان، وأحيانا شيء أبسط بكثير مثل: قضاء وقت ممتع.
منذ عامين وأنا أحاول التأكيد على مدركاتي الذهني أن هذا هو الصواب الذي يجب أن أفعله، لا أنجح دائما، ولذلك عندما أصل إلى تلك الحالة من الهلع، أتجنب الناس، أتجنب الكتابة، أتجنب أشياء كثيرة حسب طاقتي على التجنب.
المثير للغيظ في المسألة، أن القلق الذي يبعدك عن الناس، يصنع قلقا نتيجة بعدك عن الناس، لذلك هو قضاء وقدر أحيانا أن تكون حول البشر، وأنت ويومك، وأنت وهرموناتك، وأنت وأفكارك التي تذهب بها أو تذهب بك يمنة ويسرة، من هذه الظروف المركبة تنشأ الحوادث المزعجة التي تقودنا إلى هذه الخسارات الصغيرة المتراكمة.
الذي يحقن قلقه في الآخرين من واجبه تجاه نفسه أن يجد طريقةً لكي يخفف هذه الخسارات الصغيرة، لأنها مع الوقت ستتحول إلى انطباع عام، وحتى لو تجاوزت حالتك التي سببت لك هلعك، ربما ستجد أن قلقك ذلك يعود إليك على هيئة إنسان أدنى تصرف منك كفيل بجعله يتوتر تجاهك بشدة، ليس لأن ذلك الموقف الصغير يستحق، لكن لأنك أقلقته بما يكفي وأوصلته إلى التأهب التام لتجنب أي توتر يمكن أن تسببه له.
أما عندما يكون الأمر نتيجة طرفين قلقين! أهلا وسهلا بدراما العلاقات، والخصومات، والحوارات الكاوية!
ونعيش ونتعلم!