بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 25 يوليو 2025

إسرائيل الموت!

 أحتار في فهم الذي فعله نتنياهو بإسرائيل! وأستغرب تارةً من ثقته التامَّة وإدراكه الشديد لدوره في بقاء إسرائيل، كما أستغرب تارةً أخرى من الرهان العتيق على أن تتحول إسرائيل من دولةٍ إلى (وطن) حقيقي!

كسر نتنياهو عقدة الدم اليهودي الغالي، وسمح للإسرائيليين بالموت، وما أخطر العدو الذي أصبح لا يهاب الموت! وهذه الإسرائيل التي كانت تقيم الدنيا ولا تقعدها لاختطاف جندي، أو لموتِ مجموعة من المستوطنين في عمليةٍ فردية أصبحت اليوم تقدم هباتها من لعنات الدم لمن تريد وتشاء من مواليد الأرض المحتلة. أظن في رأيي أن هذه النقلة هي الأخطر في تاريخ كل اللعنات الصهيونية التي لطالما كانت عشقا للحياة، ونفعيةً بحتةً مشروطةً من دولة المهاجرين.

لعنة الدم! هذه التي قدمها نتنياهو الراحل إلى شيخوخته، صك الأمان الصهيوني الأكبر، والوسيلة الأقوى لجعل الأمر خارج معادلات الدولة ذات السبق العلمي، والتقدم التكنولوجي. هوية من الثأر، والقتل، وطريق لم يعد من بعده عودة. ماذا بعد أن جعل نتنياهو جيشه نازيا؟ يبيد، ويقتل؟ أي عودة بعد هذا القرار؟ 


بينما يلوك الناسُ أطراف الحقائق عن ورطته السياسية، وعن خوفه، ثمَّة ما هو أخطر يدور في الأفق، ملك اليهود الأخير، الجديد، الذي كسر عقدة المُحتل الأكبر، وقدَّم القرابين، وأنشأ لعنات الدم التي لا سلام بعدها يمكنه أن يطهّر هذا الجحيم الذي فتح وابله الشيطاني على المدنيين.


أخشى أن نتياهو فعلها، وأخذ إسرائيل إلى أحد الحدين، إما طريق البقاء بالموت، أو إلى طريق الفناء بالموت. لم يعد أمام الإسرائيلي الحديث سوى أن يقتل لنهاية الطريق، إما أن يُقاتِل ويَقْتُل، أو سيُقتل. فعلها نتنياهو، وأخذ إسرائيل إلى طريق لا عودة بعده، ومهما حاولت هذه الإسرائيل تجفيف نهر الدم الذي سال، لا عالمَ يصدقها، ولا حليف يطمئن لها، الأمر أصبح بيد القوَّة والعنف، والكراهية، والثأر، وبين أهل الحق والاستحقاق. 


ستنتصر إسرائيل عندما يموت آخر فلسطين في كوكب الأرض. هذا هو النصر الوحيد الذي يضمن لإسرائيل الخلود والأبدية، عدا ذلك، كل هذا الموت وعد بالمزيد من الموت. فلا نامت أعين الجبناء!


والله غالب على أمره!


بقايا خطط ترامب وقوته، وكيانه الهش. وملك اليهود الجديد نتنياهو، واهب اللعنات لشعبه، فعل كل ما لم تحلم المقاومة يوما ما بحدوثه! جعل إسرائيل حقيقية!

أظهر التطرف الحقيقي في العالم كيف يكون. التجويع، الإبادة، معاقبة المدنيين، جُبن الجيوش، جُبن المواجهات. وراهنَ على لعنة الدم حتى النهاية.


التحليل القائل أن نتنياهو لا يعرف ما يفعله هو تحليل ضحل، ولا يخلو من الغباء. هذا المتطرف يعي جيدا ما يفعله، يعي قيمة كل قطرة دم يزهقها الجيش الصهيوني الجبان، يعرف جيدا أثر هذه اللعنات. 


الجيل الجديد، اكتسب ما يكفي من الوحشية، والمكابرة، والتلاعب، والكراهية لكي يوضع في موضع الوحشية المستمرة، وأي شيء يجعل إسرائيل تستمر؟ السلام؟؟؟؟؟ كلا طبعا، السلام هو أكبر خطر على استمرار إسرائيل في المنطقة، العدوانية، والكراهية، والحرب هي الطريق الحقيقي لبقاء إسرائيل، ولكن هل يدفع لخلودها؟ أيضا كلا طبعا! نرجسية تكفي لإرهاق إسرائيل على المدى الطويل رغم تعاسة كل المعطيات على المدى القصير.


صوت التطبيع يتراجع، يخفت، واعتبار إسرائيل دولة طبيعية مع الشعوب العربية يتراجع ويتحول كل يوم إلى مشروع خطر للغاية على وحدة هذه الشعوب وعلى ترابطها وتماسكها، الذين تسابقوا للتطبيع نعم ينالون الآن نعيم وخيرات الرأسمالية والبحث العلمي، واستثناءات المجتمع الدولي ولكن إلى متى؟ هذا الشق المتعمد للقيم العالمية له ما بعده، وإن لم يظهر الآن، بعد جيل، بعد ترسخ هذه الحقائق في مجتمعات البحث العلمي، وفي الحقائق الشعبية، هُناك ما سيتغير، وأبسطها عودة الشخصية الصهيونية إلى حالة المسخ بعد سمسرة طويلة المدى على دموع المظلومية.


أثبت نتنياهو حقائق العالم الفلسفية دفعة واحدة، أن القوَّة هي الطريق الوحيد للبقاء، الفارق بينه وبين أي قوي آخر، أن قوّته الحقيقية هي أمام الضعفاء فقط، قوة تدمير وليست قوة انتصار، ما غُرس من ضآلة، وحقارة، وروح الفئران في جيشه أيضا له ما بعده، وإن نجح فقد صمد لبعض الوقت حتى يلاقي مصير العُمر الحتمي ويهرم، وإن فشل فلا عجب إن اتجه لمقاربة شمشون، وهدم المعبد فوق رؤوس الجميع بما في ذلك رأسه.


ما يبدو الآن مثيرا لليأس، وما يبدو الآن ظُلما بلا هدف، بلا سبب، بلا عدالة يتسرب إلى وجدان العالم كحقائق. كُل الذين يرون العالم بمنظور المسطرة والقلم، والمصالح السياسية المادية البحتة يعيدون النظر في كل هذه الفيوض المعنوية من التغيير. تلوم المقاومة، تكرهها، تفعل ما تفعله، نعم هي التي سعت لهذه الحرب، ولكن إسرائيل لم تحارب، إسرائيل لم تحارب المقاومة، إسرائيل حاربت المستشفيات، والرضع، وحاربت المدنيين، واستخدمت كل ما هو نازي وممنوع، إسرائيل لم تدخل حربا، إسرائيل دخلت معركة يائس، تبددت كل تلك الأوهام عن قوتها المنيعة، وظهرت جيوش أخلاقيات الفئران والجرذان، وظهرت حقيقة الشخصية المتطرفة الصهيونية، وظهرت حقائق اليمين، كُل هذا له ما بعده، وما بعده قبيح، قبيح للغاية على إسرائيل وعلى نتياهو، دولة وليست وطنا، هذه نتيجة أولى ستكفي كثيرا. 


الآلة الحاسبة تقول كلاما مختلفا عن المآلات، واقع الحال مزر للغاية، تعيس بمعنى الكلمة، مليء بالمجازر والدماء والضحايا، ولكن لا طريق لإسرائيل لإنهاء فلسطين سوى قتل كل فلسطيني في كوكب الأرض، ليست المقاومة وحدها هي فلسطين، أما جيوش المتواطئين مع إسرائيل، والقابلين لبطشها، فهم أيضا لهم يومهم. كيف أطمئن لذلك؟ قبل اطمئناني لقضاء الله وقدره، اطمئناني لهذه المعطيات المادية أن التاريخ يوما ما لم يترك من فعل إسرائيل وشأنه، لسبب ما يسعى الإنسان هذا الدموي الشرس المتحيز المليء بالغضب والذاهب بسهولة للامتثال الجماعي والأنانية لسبب ما يسعى هذا الكائن البشري للسلام، لأنه يعلم أن الحرب لها نهاية، ولا طريق لأي حرب سوى إفناء العدو تماما، هل سيفنى هذا العدو (الفلسطيني) من يموت يولد، ويتضاعف، ويتكاثر في الأذهان قبل أن يتكاثر في النطف وبالنطف. 


خلاصات الآلة الحاسبة تقول شيئا مختلفا عن خلاصات المعنى الحقيقي لصمود شعب يقاوم من أجل التحرير، في كل قلب فلسطين بذرة لفلسطين كاملة، وهذه البذرة عندما تقتل تموت قضية فلسطين وتنتصر إسرائيل. وهيا يا جرذان الصهاينة، اقتلوا كل بذرة في هذا العالم، ستجدون ألف بذرة أخرى تنمو في مكان آخر. 


انتصر نتياهو نعم، بما يكفي لعمره الشخصي، لكن إسرائيل هُزمت بما يكفي لتآكلها مع الوقت، لا سلام، ولا أفضلية أخلاقية تُركت لها، بقيت الدولة وذهب الوطن اليهودي، وعندما يقضي الله بأمره، سيعلم الذين ظلموا أي منقلب سينقلبون!



والله غالب على أمره

على وشك رحيل ما!

 مرَّت ثلاثُ سنوات من الدراسة. تخصص علم النفس الذي حلمتُ به سنوات وسنوات ولم يكن متاحاً. والآن أمامي فصلان دراسيان، وأصبح (منهم!) مَن هُم؟ من الراحلين من قسم علم النفس الشاسع، الواسع، المليء بالتجارب والنقاشات.

الراحلون الكبار من هذا القسم، ونخبة العقول المبشرة بالخير. في كل فصل يتخرج هؤلاء الذين تركوا أثرا ذهبيا في عقولنا، عبر النقاشات الطويلة في هذا التخصص العجائبي. أن تدرس علم النفس، ولكي لا تكون دخيلا يراجعُ المعلومات والمعارف ويظن أن ذلك يكفي! قطعا لا يكفي، علم النفس حقل، له مظلة، وأدبيات، وأخلاقيات تتعلم مع الوقت صعوبتها. والتجربة الدراسية داخل الفصول شيء، وذلك التداول الحُر للأفكار شيء آخر. 

(Psychology code)

شيء من أشياء الدراسة في هذا التخصص العجيب! أن تكون طالب علم نفس، أنت في حلفٍ دائم مع كل الذين يدرسون معك! حالة تعلّم لا يتوقف. الأشياء النادرة في الحياة، تلك التي يسقط فيها الإيجو، وتتراجع فيها الأحكام شيء شائع في هذا القسم العذب. بكل ما فيه من تطهير أخلاقي دائم، ومقاومة لنزعات في النفس البشرية تُرهق الإنسان بمشاعر الحسد والتنافسية، في قسم علم النفس أشياء كثيرة. 

الأولى على الدفعة تبذل الوقت والجهد لكي تنقذ زميلها الثاني على الدفعة لينجو معدله من صدمةٍ في مادةٍ إشكالية. الطالب الذي يتبرع بالشرح لجميع الطلاب في أي وقت، وفي أي زمان، وفي أي مكان. الروح المفعمة بالسعي للفهم، إن كنت من هواة إطلاق الأحكام، وتأطير البشر، واعتبار أن مشاكلهم هي ذواتهم، ستأخذ وقتك حتى يسبغ علم النفس عليك خصالا جديدة. طلابٌ كثر يبقون في الذاكرة. صالح الإسماعيلي، هذا المُسرع في التخرج، الذي وفّر على نفسه عاما ونصف العام في مسيرة أكاديمية مليئة بالضغط الدراسي. 

عدوية الحراصية، من ذلك الفريق النادر في قسم علم النفس الذين جمعوا تخصص التمريض بكل أخلاقياته والتزامه وأضافوا إلى مسارهم المهني هذا التخصص. ولا أنسى طبعا، الراحلة قريبا، التي نسميها أجمعين بالطالبة الجليلة، تلك الإنسانة المخلصة، المؤمنة بهذا التخصص. 

يرحلون، ويغادرون من هذه الرحلة إلى رحلةٍ أخرى في هذه الحياة. مرَّت ثلاث سنوات منذ أن بدأت الدراسة، والآن، الوقت الذي كنت أتمنى أن يمرَّ سريعا ينتقل إلى حالةٍ مختلفةٍ من النسبية. زملاء، وزملاء يرحلون، والأسماء في لوحة الشرف تحل محلَّها أسماء جديدة، وكبارٌ جدد للقسم، يصنعون تأثيرهم ويتركون أثرهم. لهذا التخصص اختلافه الجوهري عن الكثير من الأشياء، تخصص النطق عن المسكوت عنه، والسعي الدائم للتعاطف، واعتبار أن المشكلة هي مشروع حل، وليست مشروع حكم. 


لا أبالغ إن قلت أن أبرز الطلاب في هذا التخصص هم الذين جاؤوا إليه من تخصص التمريض، جاهزين أخلاقيا للمسؤولية، وعاشوا التجربة الحقيقية في ساحات الموت والحياة. لطالما أبهرني هؤلاء الذين جمعوا بين التخصصين، ولطالما شعرت بالأمل الشديد حيالهم. كل يوم تتعلم شيئا جديدا، وكل يوم تعرف أشياء أخرى. 


الرحيل يقترب كل يوم، وبعد هذه الإجازة القصيرة، أخطو إلى زحام سنة التخرج، ولعل اليوم الذي أظنه الآن يحمل صفة (عام) سيمر خاطفاً. وكما مرَّت ثلاث سنوات، ستجدون هذا الطالب الذي يكتب كثيرا عن دراسته وقد توقف عن الكتابة عنها!  ليصبح أحد هؤلاء الذين رحلوا وتخرجوا. 


بعد قرار عودتي لعُمان، التخصصِ، ودراسة علم النفس كان بلا شك من أعظم القرارات التي اتخذتها في حياتي. سنوات متتالية، من الخسارات المالية الموجعة في مهنتي التي تعتمد على التفرغ التام، ومن منصات المهنة هذه التي تحتاج إلى أحد يواظب على إحيائها، ومن الانشغال عن الرياضة، وبكل ما حدث في هذه السنوات من صدمات، ومن آلام. ومن نهايات سعيدة تمثّلت في وصول ابني المُلهم الذي أتمنى أن يكون معي في حفل التخرج، وسيكون عمره عام ونصف!


أن تدرس وأنت في الأربعين، لم أكن أعرف أنَّها تجربة ثمينة. مع تخصص مثل علم النفس أنت لا تبدأ من الصفر، تحمل معك خبرتك السابقة، تمنحها أسماء الصفات، وتسمي كل شيء باسمه، وتأخذ معك هذه المهارات والمعارف إلى حياةٍ قادمةٍ تتمنى أن تكون نافعةً وجميلة.


مرَّ الوقت، وهذه سنة الحياة، والذين يغادرون اليوم، سنكون منهم غدا، تحية لكل الرفاق العظماء الذين سيغادرون متخرجين بعد هذا الفصل الدراسي، وتحية لنا ونحن نخطو خطواتنا الأخيرة كطلاب، ونبدأ غدا رحلة المتخصص، وطريق جديد للبحث عن المعنى في هذه الحياة الغامضة غموض الشمس، والواضحة وضوح الظل.



الخميس، 24 يوليو 2025

ماذا تبقى من إسرائيل حقا؟

 

ماذا تبقى من إسرائيل حقا؟

 

 

رغم كل الحزن الذي يصول ويجول في الأذهان والأفئدة عمَّا يحد في غزة، ثمّة شيء ما تاريخي يتجلى في كل هذا الخراب، عن الذين يخربون بيوتهم بأيديهم وهكذا يفعلون!

 

المتطرفون العالميون الصهاينة يدخلون أيامهم الأخيرة، خنجرٌ في اليد ملطخ بدماء الأبرياء، وقلمٌ في اليسار ملطخ بقرارات التجويع، ورأس مليء بالهراء الديمقراطي، وقدمان تسيران للهاوية، وجسد من وهم يتحول كل يوم إلى ظلٍّ لشبح راحل.

لم ينجح مستعمر يوما ما في المكوث في أرض احتلَّها بدون إبادة شعبها الأصلي تماما. إبادته، ودمجه، وتمييع ثقافته، وحصار إعادة ولادته.

وبالنسبة لإسرائيل، التوراتية التي تأتي من كل التاريخ المزوّر والمحرفّ، هذه البدائية، والبربرية، والهمجية، جعلت السابع من أكتوبر شيئا لا يُذكر في المعايير العالمية المزدوجة والمنافقة. حتى تلك الأفضلية الأخلاقية من المنظور الغربي تناثر مهشمةً أمام هذه الحقيقة الإسرائيلية الواضحة. هذه ليست دولة ديمقراطية، وليست دولة تريد البقاء، هذه قاعدة عسكرية للمتطرفين، وحتى وإن كان بها من بها من قليلٍ يتوهم أن البقاء ممكن، ينتصر المتطرفون، ويأخذون بإسرائيل للهاوية.

 

جرّب معي أن تتخيل قليلا أنك مهاجر يهودي جديد، تصل لإسرائيل قبل عامي، وكل هذا يحدث؟ ألن تشعر بالذعر؟ ألن تشعر أن مقوّمات بقائها كل يوم تتحول إلى صراع رأسمالية، وصناعة أسلحة، وقيادات سياسية محددة، وحرب ابتكار؟ ونعم إسرائيل الآن منتصرة في كل هذا، ولكن السؤال الكبير: هل تستمر الدول المفتعلة في البقاء والحياة إن زالت عنها أهم مكوّناتها المعنوية؟ السلام؟ الرخاء؟ والصداقة؟ والثقة بين الحلفاء؟

 

ما فرّط به نتنياهو لم تكن المقاومة لتحلم أن تحققه! ما فعله كان كافيا لكي يكون بقاء إسرائيل مرتهنا بمعادلات الاقتصاد والبحث العلمي، وهذه نعم، تصنع قوّة، وتصنع دولا، ولكن الدول إن كانت جديدة فرحلتها الرئيسية هي البحث عن المعنى العميق الجوهري لأبناء ترابها الجدد، أما بطش المهاجرين بسكان الأرض، والانتماء المزدوج والرماد القومي الذي آل إليه الحال، أعاد إسرائيل إلى منطقةٍ تعبت عقودا لكي تنفي عنها حقائقها، دولة نازية، تذهب إلى أبعد ما يكون، ودرعها الأمريكي مشكوك في أمره، والاستقطاب العالمي نجح في أن يجعل إسرائيل موضع سؤال على الأقل وإن لم يكن موضع إجابة حاسمة ومؤثرة.

 

رغم كل هذا البؤس الذي يحدث، نعم إسرائيل ستبقى، بقوة النظام القانوني العالمي البائس ستبقى، بقوَّة الجيوش وصناعة الأسلحة ستبقى، بقوَّة البطش والبلطجة والجريمة الدولية ستبقى، بكل هذه المعطيات ستبقى، مؤقتا، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، إلى أن تتغير المعادلات الكبيرة، إلى أن تقوّض أمريكا شيئا ما، ويخطئ أحدهم في شيء آخر، إلى أن تهاجر العقول، وتؤسس ما يمكن نسخه وفعله في الصين أو في دولة أخرى، وهُنا ماذا تبقى لإسرائيل؟ بقي احتلال بلا جوهر وطني، وخرافات المتطرفين البدائيين البرابرة، وسمعة ملطخة بالعار والإبادة. ما فعلته في إسرائيل بنفسه لم تكن المقاومة لتحلم أن تحققه ولو بحرب عشرين سنة.

 

ما هُدم في غزَّة يمكن أن يبنى، وما مات يولد، ومن يعيش، بقيت له فكرة تحارب الفناء، روح وطن، وشعب، ورحلة تحرير، لعلها لن تتحقق في هذا الجيل، وربما ليس الذي بعده، الهزيمة هي أن تموت هذه الفكرة، وأن تخمد هذه الروح، فماذا حدث في النهاية؟ فلسطين بلا بحث علمي، بلا ابتكار، بلا اقتصاد، ولها في آجلٍ من الزمان أن يحدث لها ذلك، أما إسرائيل، فلديها ما لديها من مقومات الدولة الحديثة، والسؤال؟ ماذا تبقى من جوهر الدولة المعنوي؟ قواعد عسكرية، ومكاتب رأسمالية، ومختبرات، ومخابرات، كُل شيء اسمه دولة، ولا شيء اسمه وطن!

 

والله غالب على أمره



معاوية الرواحي

الثلاثاء، 22 يوليو 2025

الرسالة رقم 4: حديث القلوب!

 

الرسالة رقم 4: حديث القلوب!

ابني الصغير: المُلهم

أبوك اليوم بين المطرقة والسندان. مطرقة من الزهور، وسندان من الزمن. ألاحق الوقت، والجهد، والزمن للعناية بك بأقصى ما يمكن للوعي العلمي أن يقدمه لي من إجابات. كل شيء جديد، كل شيء بلا استثناء، ولا سيما الجوانب البيولوجية الحتمية التي ما أن أكتشف جانباً منها إلا وتتجلى لي جوانب أخرى. نفحاتك النورانية بدأت مبكراً يا صغيري، من حيث لا أحتسب، ومجيئك كان النقطة الأخيرة في نهاية السطر تجاه مشكلة أزلية يعاني منها أبوك منذ سنين وسنين.

هل الوقت مبكر لأخبرك عن مشاكلي؟ وعن حكايتي في الحياة؟ الحكاية التي يجب أن أسرد لك تفاصيلها بصدق، بما يكفي ليشهد عليها الشاهد العدل؟ هذا مهم في هذه الحياة عندما تكون ابنا لإنسان عاشً يوما ما إشكاليا. بقدر ما يرهقني هذا الأمر، يدهشني أيضا هذا الوعي الاجتماعي العُماني الذي يؤمن ألا تزر وازرة وزر أخرى. هذه البلاد التي كنت أضيق ذرعا بروحها المحافظة يبدو أنني أتحول إلى أحد أبنائها المحافظين. شيء من أشياء عُمان سوف تتعلمه مع الوقت عن بلادك التي ستحملُ اسمَها. لعل هذا أحد أهدافي من هذه الرسائل، أن أهيئك عبر مراحل الوعي التي تصل لها ليكون معك هذا الدليل الإرشادي التربوي الذي إن لا سمح الله خسرت أباك فعلى الأقل ترك لك ما يعينك على فهم زاوية الحياة من منظور أبيك. هذا الأب الذي يجب عليه أن ينحتَ من هذه اللحظة نظريةً تربويةً علميةً يسير عليها لكي لا يورثك مشاكله، ولكي يجنبك اختلاطاته الخاصة به، جئت بك لهذه الحياة لكي أفعل أقصى ما بوسعي لكي تعيشها على أفضل المتاح من الظروف والقدرات، لن يصح أن أكون الآن طالب علم نفس وأعلم جيدا عن الصدمات العابرة للأجيال، وأعلم جيدا طريقة تجنبها، ولا أفعل ذلك! ليس منطقيا أبدا أن تعرف ولا تلزم!

عرفتُ فألزمُ، هذا ما أفعله وأنا أتعلم بلا توقف عن طرق التربية الجيدة. أما أن أستشير الآخرين في شأنك! هذا آخر ما يمكنني أن أؤمن به، إن احتجت سوف أستشير واحدا من طابور متخصصي علم نفس النمو الذين أعرفهم، وإن فشلت معرفتي وقدراتي البحثية في الوصول لإجابة أو طريقة تربوية سأذهب لمختص أكثر خبرةً. الجدعنة الاجتماعية شيء لن أقبله أبدا عندما يتعلق الأمر بك عزيزي الملهم، أنت وإخوتك. هذا ما تعملته حتى الآن، وما تقرره التجربة، أبٌ جديدٌ، يحاول التأقلم مع الدوافع والظروف الجديدة، ويجد حلولا لأكبر قدر من المشكلات التي يجب كل الوجوب ألا تكون أنت الذي يدفع ثمنها، إلى أي مدى أن مستعد لحمايتك؟ إلى أقصى مدى ممكن. وإلى أي مدى أنا مستعد للعيش لأجلك؟ لأقصى مدى ممكن. هذا ما أملاه عليَّ الرابط الفطري الذي يتعلق بكوني أباً لك، متيقن أن الطريق يحمل روابط معقدة أكبر من رابط الحماية والعناية. ما لا أعرفه، لا أعرفه، حتى أعرفه! هكذا ببساطة تسير الحياة بين ما نجهل وما نعلم، ربما لذلك علينا أن نعرف ما نجهله أكثر من تركيزنا على ما نعرفه.

دعك من هذا التفلسف. إنني أحاول الكتابة قدر الإمكان لتأجيل مذاكرتي لامتحانٍ أخير غدا، بعدها تبدأ ملاحقة لقمة العيش، والعناية بك بشكل حقيقي. حتى هذه اللحظة، لم تمنعني مشاغلي عن زيارتك يوميا والوقوف على شؤونك، لكنها منعتني عن الجلوس في لحظات التعلم الذاتي الخاصة بي لأعرف أكثر عن تربية الأبناء، وعن نموهم في المراحل الأولى، وعن مناعتهم، والغازات، والنوم، والتنظيم، والترتيب، معلومات علمية بسيطة تغني عن التجربة والخطأ. المفهوم الجديد الذي تعلمته هو مفهوم (التحكم) وكيف يمكن أن يبدأ مبكراً فور إتاحة مدى معقول لحركة الرقبة، معلومة بسيطة، ولها فوائد بسيطة، قد لا تُذكر بالنسبة للراسخين في علوم التربية لكنها تعني الكثير لي. إمالة زجاجة الرضاعة، نوعية التدفق، وأنواع البكاء، كلها أشياء جديدة للغاية عليَّ، والحق يقال هذه ليست من المهمات التي يجب أن أفعلها أنا نظراً لتكويني البيولوجي الذي ليس مريحا من الأساس لك لتقضي وقتا طويلاً نائما عليه، فطرة فطرها الله وأرى تكوينها العجائبي يتجلى في ما اختصَّ الله به لنفسه فقط، (الخلق) وأنت مخلوق من مخلوقات الله، أودع الله فيك أسراراً كما أودع فينا أسراراً، وذاتَ يوم بإذن الله عندما تكون أبا، وعسى وقتها أن تجعلنا جدا سعيدا للغاية بك وبحياتك، ستتذكر ربما هذا المقال وستقول: لقد قال أبي ذلك في رسالته الرابعة لي؟ أن كل هذا مختزن بنا، نكتشف وجوده السابق بنا. رغم أنف المادية المفرطة في اعتبار الإنسان كتلة من التفاعلات المادية، ثمَّة ما هو عميق بنا، وما هو مدهش، وأي شيء أكثر دهشة من ما قدّره الخالق الحكيم في خلق البشر! ومجددا، أي كلمات تصف المشاعر المتعلقة بذلك؟ لا كلمات تكفي، لأنها كلمات لم توضع في لسان بشر بعد!

أشعر بالإرهاق الشديد، منهمك للغاية في كل شيء حولي، أشياء ربما لن أحبذ كتابتها في هذه المدونة لوجود عامل الغرباء بيننا في رسائلنا، وهذه الرسائل لا تخلو من العلنية لذلك لن تخلو أيضا من اعتبارات وجودك الاجتماعي الذي أطور الآن مفاهيمه الأولى. لا أريد لهذه الرسائل أن تخلط الحابل بالنابل فيما بيني وبينك، لذلك، ثمَّة كثير لا يكتب، ثمَّة كثير لا يقال، وثمَّة أيضا دفتر سري آخر أكتبه لك لتقرأه أنت فقط، كيف أدبر استلامه وتسليمه لا أعرف حتى الآن! ربما سوف تأخذني ظروف الحياة إلى المنطقة هذه مبكراً إن ساءت صحتي، وربما بإذن الله تسير الحياة بلطفٍ وسعادةٍ، كل هذا محتمل، لا أحد يحدد قدره.

تحسنت رغبتي في الكتابة بعد مجيئك. وأيضا حققت شيئا جيدا للغاية اليوم في حل مشكلةٍ من مشاكلي الصغيرة. مشكلة التركيز التي أخيرا وجدت حلَّها الدامغ. كان شعورا غريبا للغاية أن يهدأ عقلي تماماً، وأن أشعر أن زحام الأفكار التي به، والطنين الهائل الذي يتلاحق بلا توقف قد هدأ! مشاعر جديدة للغاية، والأهم وضع ذهني إدراكي سوف يسمح لي بتحمل الفوضى التي حلّت على حياتي نتيجة توافد أولويات جديدة على طاولة الوقت. تراودني فكرة صغيرة! الآن، لأدمج رغبتي في الكتابة مع رسائلي لك، ربما أطبقها في تدوينة قادمة، وربما لن أفعل، حتى هذه اللحظة لا أعرف خطتي من هذه الرسائل، أعرف جيدا أنني أريد أن أكتب لك، وأريد أن أترك لك مجموعة من الكتب الصغيرة ترافقك في حياتك، إن لم تمكنك في حل بعض المشاكل التي تواجهها على الأقل سترشدك إلى منبع المشاكل التي جاءت من الجيل الذي لم تعش فيه، أرجو في زمانك إنك لن تعيش مشاعر الحسرة على الإبادة التي تحدث في غزة، وأرجو في جيلك ألا تكون كتلة سرطانية قبيحة اسمها إسرائيل موجودة على الخارطة، وأرجو في زمانك أن يكون الطب قد تطور لأستطيع الحياة معك لسنوات إضافية أكثر. كلها أحلام وآمال لأب وأنت عمرك أسبوعان.

حسنا يا عزيزي، أبوك حائر حتى هذه اللحظة عن العُمر الذي ستقرأ فيه هذه الرسائل، لذلك لا أستطيع منحها سياقاً واضحا، ربما لأن السياق من الأساس غير متضح لي. ثمّة شعاع ما من المعنى أستشعره وأنا أكتب والكلمات تتكون أمام عيني، شعاع طفيف من الحب والوعي، شيء ما من أشياء الغموض في النفس، شيء جميل، يسمح لي الكتابة، ودائما عندما تولد الكتابة من طيّات اللاوعي هُنا اكتشاف الأشياء، وهنا ترسيخ الوعي الصحي، وهُنا أصبح بخير، كما أتمنى لك دائما أن تكون أيها الملهم العزيز. أبوك يحبك كثيرا، دمت في حفظ الله يا ابني العزيز.

أبوك المحب

معاوية

22/7/2025

 

السبت، 19 يوليو 2025

الرسالة رقم 3: أن يبدأ العقل بالحديث!

 

الرسالة رقم 3: أن يبدأ العقل بالحديث!

 

ابني العزيز، الملهم بن معاوية

 

لست في حالةٍ عاطفيةٍ هذا الصباح. إنها الساعة الواحدة فجرا وأبوك حتى هذه اللحظة لم ينم. أبوك حالياً طالبٌ في الجامعة، من المتفوقين على دفعته، معدله التراكمي (3.9) وهذا ما يعد في زماننا معدلاً عظيماً يستحق الفخر، لكنه أيضا في الثانية والأربعين من العُمر، ولديه قصة طويلة عريضة في علاقته مع الدراسة، ولأنك ابني يجب أن أسردها وأنا بكامل تركيزي. كل النصائح للعالم في كفَّة، ونصيحتي لك أيها الملهم في كفّة أخرى، لهذا أفضل أن أؤجل شرح تعقيدات علاقتي مع عالم الدراسة الجامعية إلى حين اكتسابي قدرةً موضوعية عاليةً على كتابة رسالة تربوية مفيدة، قد تنفعك، وربما تنفع معك أبناء جيلك الذين لا أحد يعلم كيف سيكونون! ظننا أن مواليد 2000 يعيشون حياةً مختلفةً للغاية! ماذا عن جيلكم الذي يولد في عصر الذكاء الصناعي، وعصر الواقع الافتراضي! ستخبرني أنت وقتها عن حياتكم يا ابني العزيز، أما عن حياتي الآن، حياتي اليوم في تاريخ 19/7/2025م، فنحن في واقع ينذر بالعجائب. يرأس أمريكا الآن رئيس أهوج، وثمة دولة اسمها إسرائيل لا أعرف هل ستكون باقيةً في زمانك أم لا، يرؤسها سفّاح من سفاحي العالم الحديث.

أحتفل اليوم بأخبار صغيرة، لها علاقة بعشق أبيك الهائل لعالم الدراجات، وإحباطِه الشديد من غياب المسارات التي تضمن لي أن تعيش طفولتك كما عشنا طفولتنا، ننتقل بالدراجة الهوائية، ونذهب للدكان بالدراجة، في عالم السيارات اليوم لا أعلم أي طفولة أستطيع أن أقدمها لك. شعرت بالأمل لك أنت أكثر من أي شيء آخر، وتمنيت أن تبث عروق هذه المسارات للدراجات في عُمان كاملة، بحيث تجدها في اللحظة التي أهديك فيها دراجتك الأولى. إن لم يحدث ذلك، وإن بقيت الشوارع خطرةً كما هي الآن، فسامحني يا ابني، أكتب لك هذا الاعتذار وعمرك عشرة أيام، أبوك أنقذت حياته دراجة هوائية، لا شيء أحب إلى قلبي من أن يكون ابني من عشاق هذه المركبة المعدنية التي بها روح، ولكن إن لم يوافق الزمان خوفي عليك من مهزلة السيارات، وما تفعله بالمشاة وبالدراجين، فلا تحمل في قلبك على أبيك الذي يقرر من منطلق المسؤولية التي تقع على عاتقه أن تقود دراجتك في الأماكن الشحيحة المخصصة، تجربة شاحبة، غير كافية، وأرجو أن يتيح لك الزمان أن تعيش هذه التجربة بشكلها الكامل والحقيقي ذات يوم في مكانٍ آخر، لا تلم أباك إن خالف الزمان أحلامه لك.

لعل هذا كان أجمل خبر في يومي، أما عن باقي اليوم فأنا غارق بك. عمرك 12 يوماً، وتمضي في مسار النمو، وأنا كأبٍ حائر يعاني كل المعاناة من التناقض بين الشعبي الاجتماعي، والعلمي المثبت. أبٌ جديد، يحاول فعل الأفضل لك، يحاول قدر طاقته أن يوفر لك أفضل ما لديه. الخلاصة الأولى التي وصلت لها هو أن عنايتي بكل ستكون بكل كاملٍ عبر عنايتي لوالدتك، أنت الآن في العمر الذي تشكّل فيه الأم جوهر حياتك، وتجربتك، ورابطك العاطفي، وتغذيتك، وتنظيفك، ومتابعة شؤونك التي أحيانا أعجز عنها كأب. اكتشافي اليوم عنك كان فطريا بحتاً، أن جسدي كرجل غير مهيأ لكي أحملك فترتاح، أو أضعك على حجري فتنام نوما جيدا، أستطيع حملك، وتأمل عينيك، ولقد كنت اليوم بهيا وجميلا عندما ابتسمت لي ابتسامة صادقةً هذا طبعا قبل أن تقدم لي بعض الهدايا البيولوجية التي فاضت وأنت في حضني، هدية جميلة لم تُنسني هديتك الأجمل، ابتسامتك الأولى الحقيقية التي كانت نتيجة تفاعل بصري بيني وبينك.

حاولت أن أجد وقتاً كافيا لأعود إلى مراجع علم النفس، لأعرف أي مرحلة تطورية أنت فيها ولكي أطبق ما تعلمته على إشاراتك، وتواصلك. كنت أظن أنني سأكون أباً حديثا للغاية، ثمة مدارس جديدة مؤصلة بشكل ممتاز تعطيك دربك المختلف، عندما تكبر، ستعرف أيضا أن أباك ليس بيده كل شيء، ثمّة ثقافة اجتماعية تفرض علي الكثير، وأبسطها: كيف يمكنني أن أشرح لأحد أنه يمكنك تربية طفل على إعطائك إشارات برغبته في الذهاب للحمام، وبالتالي يتعلم التحكم بأمعائه مبكرا؟ نعم، هناك طريقة أيها الملهم، ولكن ماذا بيد أبيك سوى أن يأكل تبناً ويطيع الثقافة الاجتماعية التي صوابها صواب، ولكن ثمَّة صواب علمي أجمل، وأنفع! لذلك سامحني يا ابني العزيز، ظننت أن الوعي يكفي لكي أحقق كل ما تعلمته، وكل ما تشوقت لتطبيقه، ولكن للظروف أحكام، وكم يغيظني هذا، يغيظني بشدة!

أين كنت؟ خرجت عن الموضوع مجددا! كنت أريد العودة إلى عالمين من علماء علم النفس، واحد مزعج للغاية اسمه جان بياجيه، والثاني حسبما أتذكر اسمه فيغوتسكي، قرأت لهما أشياء مفيدة للغاية عن مراحل تطور الطفل. لم يسمح الوقت لأبيك طالب علم النفس أن يقرأ جيدا، ليعرفك أكثر، لينفعك أكثر، ليراقب مراحلك أكثر. معلومة علمية تغني عن الكثير من التجربة والخطأ، الآن وأنت تطور الإدراك، ولاحقا وأنت تكون مساحتك الأولى، وتحكمك المبدئي بمهاراتك الحركية الكبيرة، ولاحقا بمهاراتك الحركية الدقيقة، لماذا؟ هل لتقصيري؟ كلا يا ابني العزيز، لأنني لم أعد أملك وقتا، لدي امتحانات، وأعمال إنشائية بسيطة في المنزل، ومتابعة لشؤون العمل وطلب الرزق وأمنيات بعقود تجارية أستطيع بها شراء المزيد من الألعاب لك. ولدي ثلاثة امتحانات، ومجيئك المبارك شغلني عن الفصل الصيفي الذي أدرسه، وهذا الفصل بعده سنة التخرج، ولا أدري كيف ستكون دراستي بعد مجيء سيادتكم إلى حياتي، الذي أعرفه، كل شيء يهون من أجل تلك الابتسامة الصادقة البريئة التي رأيتها اليوم في وجهك.

لهذا فضلت أن أعيش تجربتي معك بعاطفتي أكثر من عقلي، وأنا عاطفي للغاية، أبدو من الخارج عقلانيا، ومنطقيا، هذا ليس أكثر من ستار دفاعي يحمي أبوك به عاطفيته، ولي قصة في هذه الحياة سأسردها لك بكل صدق، فأنت من بين الجميع لا أستطيع أن أغذيك بكلمة واحدة تخالف ما حدث، ما أستطيع قوله سأقوله، وما لا أستطيع قوله لك، لن أقوله لأي إنسان في هذا العالم. هذا ما أنوي فعله في هذه الرسائل، ولا أعرف إلى أين تذهب بي، ولا أعرف لاحقا أيضا إلى أي مدى ستفيدك، أقصى أمنياتي أن تكون أثرا أتحدى به ظروف الغياب والفقد، وأن تبقى في حالي استرد الله أمانته مني، هذه وصية صغيرة سأتركها لأصدقائي، أن يجمعوها في كتابٍ وأن يتركوها لك ولإخوتك.

أقطع مشوار عشرين دقيقة لأصل إلى منزل جدتك. وعندما سيادتك وصلت إلى عالمنا وجعلتني أباً لم أكن أعرف حجم الفطرة الهائل، المختزن سلفا في عقلي. عدسة الأبوَّة تغيرني وتأخذني كل يوم إلى مسارات ذهنية غاية في الدهشة والعجب. عائلة والدتك كانت قبل مجيئك تمثل لي أشياء جميلة، أحبهم، وهم أشخاص رائعون، لكن بعد مجيئك تغيرت أهميتهم بالنسبة لي! أصبحوا أكثر أهمية، وبدأت أرى جماليات جديدة بهم، كلها مرتبطة بتعاملهم النقي والجميل مع أرواح الطفولة، مثل روحك أنت أيها القط المشاغب الذي بدأ يعرف صوتي، وبدأ يتفاعل معي بالنهنهة والمناغاة. أنت جميلٌ ونقي، كما سمّاك يوسف الكمالي في قصيدته (خال من العلم والفلسفات). عينان من صفاء لانهائي، وملامح وجه صادقة تقول كل شيء. وما روح الطفولة إلا أنت أيها الملهم؟ صدقٌ تامٌّ، ووجه ناطق بكل مشاعرك، وصوت عاجز عن الكلمات ولكنه غير عاجز عن المعنى، تعلمني كل يوم ما يجعلني أفهم لماذا رغم تعبي الشديد أقطع ذلك المشوار، وأنا حقا لا أملك أربعين دقيقة في يومي، مع ذلك، أقطع ذلك المشوار فقط لأرى ماذا ألهمتني اليوم! وأنت أيها الملهم، تلهمني حقا! تلهمني في كل مرة أراك بها، وتعزز أشياء كثيرة لم أكن أعلم وجودها في قلبي.

في هذا العمر يا ابني العزيز، دور أبيك شحيح للغاية، بسيط جدا، ربما لهذا أستعجل الكتابة لك، فما يدريني إن كنت سأجد فرصة للكتابة في السنوات القادمة، ولا أعرف من أي طينة أنت ستكون! مشاغبا؟ أم ستكون هادئا؟ لا يمكن تصديق من يقول أن البشر طبائع وراثة فقط، ولا يمكن تصديق من يقول أن البشر صفحة بيضاء، أنت مثل جميع البشر يا حبيب قلب أبيه، ستعيش حكايتك، وبعضها سأكتبه أنا، وبعضها سيُكتب نيابة عنك، ومع الوقت ثمة ما ستكتبه أنت، متى؟ وكيف؟ لست أدري، الحياة تستمر بالواجب والباقي في يد توفيق الله.

تجاهك حتى هذه اللحظة أشعر أكثر مما أفكر. أؤدي واجبي تجاهك بكل ما هو متاح في صحتي وقدرتي، أزورك كل يوم مرة أو مرتين، والأولوية الآن هي العناية بوالدتك، هذا أقصى ما أستطيع تقديمه لك إضافة إلى شراء الاحتياجات، والآلات، وغيرها من الوسائل الحديثة التي أحبها جدا، وأبسطها ذلك القفاز الذي يراقب ضربات القلب، ونسبة الأكسجين، والنوم العميق، وما يعطيه من مؤشرات حول صحتك، والغازات، وتغذيتك، وشؤون أخرى كثيرة بفضل آلة صغيرة صرت أستطيع أن أعرفها.

عقلك، ونموك، وحواسك، كلها أشياء من المبكر فعل أي شيء تجاهها، حاليا صحتك هي الأولوية القصوى، وقطعا لن أكتب عن الذي يطرأ على صحتك في هذه الرسائل، لأنني بكل بساطة عرفت جيدا علاقة الأبوَّة مع الغرباء. توصلت لقانونها بسرعة: "لا أحد له أي استحقاق في شأنك" وعندما أريد نصيحةً سأسعى لها من شخص واحد أثق في أمانته التربوية! بكل بساطة. التربية والغرباء علاقة مقرفة قليل من الناس يفهمون أنَّ (الجدعنة) لا محل لها من الإعراب في عالمي عندما يتعلق الأمر بتربيتي لأبنائي، وأعلم جيدا أنني سأكون شرسا في الدفاع عنك، وعدوانيا عندما يحاول أي إنسان التدخل في شأنك بدون وجه حق، كل هذا أيضا مبكر، ولكنك ستكبر، وستعرف أكثر، وستعرف أن لأبيك حكاية، وله أيضا أطباع، وله قصة، وله ما له وعليه ما عليه، ربما ليس في السنوات العشر القادمة، أظن إنك ستكون في عمر المراهقة عندما ستقرأ هذا الكتاب، هذا إن لم أفعلها وتخذلني صحتي وأفلسع راحلا عن دنيا البشر، سيكون ميراث أضعف الإيمان أن أسجل لك هذه الرسائل.

كنت اليوم أريد كتابة مقال ونشره في جريدة الرؤية، الجريدة التي يكتب أبوك فيها مقالاته بين الفينة والأخرى. مقال بعنوان (الكتابة لمن؟) والآن أستسخف هذه الفكرة وأنا أعرف الكتابة حقا لمن؟ لك يا من أحببت، لك يا من أحب، لكن أنت أيها الملهم، لمن عساني أريد أن أكتب أكثر مما أريد لابني الأول! ربما لأبنائي القادمين بعدك! لا أعرف هذا حتى الآن، الذي أعرفه أن الكتابة لك كقارئ عمره عشرة آيام لا تخلو من بعض الربكة. هل أوجه لك خطابي كما لو كنت ستقرأ هذا الكلام طفلا؟ أم أوجهه كما لو كان رسالة تربوية من مثقف ينشر في مدونته، الذي أعلمه، أن هذه المدونة تعني لي الكثير، والتدوين يعني لي الكثير، وهي المرة الأولى بفضل سيادتك أيها المشاغب صاحب الهدايا البيولوجية العجيبة صرت أكتب فيها مجددا، ولا أكتب كما هي عادتي الآن، مستلبا في العصر الرقمي الغاشم، واضطرارات لقمة العيش التي تجعلنا نشطاً فيه، اكتب ككاتب يريد حقا أن يكتب ما يبقى، وأي دافع في هذا العالم يمكن أن يجده كاتب أكثر من كتابة رسائل لابنه!

كما كنت أقول لك، لدي بعض الربكة في الكتابة لك، فعلى الرغم من كونك إنسان معلوم، أنت أيضا قارئ مجهول، متى ستقرأ هذا الكلام؟ وبأي وعي؟ وهل سيرافقك إلى سنواتك القادمة؟ هل ستقرؤه أبا أيضا؟ كل هذا غائب عن عيني، غائب عن حسابات الممكن والمعلوم، غائب مثل غياب حروفك التي تُكتب، وكلماتك التي تقال، حتى هذه اللحظة، أنت روحٌ مفعمة بالبراءة والصدق التام، تتكلم بعينيك، وبالقليل من الأصوات التي تتكون بالتدريج، وكثير من التقلب والمنعكسات العصبية التلقائية، هذه المرحلة التي أعرفها عنك بعد ولادتك، وبعدها، ستبدأ في التحكم تدريجيا بعالمنا بعدما قضيت تجربةً مائيةً في ظلمات ثلاث. تشغلني حاليا هموم النمو أكثر من هموم التربية، وهموم العش الأبوي أكثر من هموم الأفكار، وهموم صحتك أكثر من أي همِّ آخر.

أتجنب خوض نقاش عنك مع إنسان لا يستحق. لأنني حقا أمقت هؤلاء الذين كل ما يهدونك إياه من نصائح الأبوَّة الكثير من التشكّي، والوعيد بأن القادم أسوأ، وسيكون متعبا، وسيكون شاقا! لا أعرف لماذا يمارس البعض هذا السلوك! هل ثمة سبب قهري حتمي يجعلهم يفعلون ذلك؟ بكل صدق لا أدري، سأكتشف هذا مع الوقت إن وجدت نفسي أحد هؤلاء. الذي تعلمته مبدئيا هو الكتمان، ووجدت هذا تلقائيا، هل تبكي أم لا؟ لا أحد له علاقة، هل أنت هادئ أم لا؟ لا أحد له علاقة، هل تسمح لنا بالنوم؟ لا أحد له علاقة، أكتفي بقول الحمد لله، وأغلق الحديث عنك مباشرةً أمام أي إنسان تسمح له السماجة أن يتدخل في هذه المنطقة الخاصة جدا. كل هذا جديد عليَّ، وكأب جديدٍ كل هذا أيضا يأتي مع تحدياته. التحدي الداخلي موضوع يحل بالتأمل، ولكن كيف يمكن فهم هذا السلوك الاجتماعي المنفّر؟ لا أعرف! الذي أعرفه أنني صرت أعرف الإنسان الذي أغلق الحوار معه خلال دقيقة بعد أن يقول لي مباشرة: القادم جحيم، القادم صعب، القادم سهر، القادم بكاء! الغبي ليس من قال ذلك، الغبي من يستمر في الحديث معه أو يفتح أبواب قلبه لهذا الخطاب المغرق في الوعيد!

لعل الناس يتعمدون الكذب، ويخفون أشياءهم الجميلة! هذا يحدث في عالم العلاقات أيضا، عندما يتبارى الغارقون في الخصومات والخلافات في إظهار وإبراز الحب والتناغم، وعندما يخفي الذين يعيشون حياةً جميلة ذلك بالشكوى من الصراعات والخلافات؟ لعل الأبناء علاقة من هذه العلاقات التي سيريد المرء دائما إخفاء جمالِها عن الغرباء. ربما في رسالة قادمة، عندما أعرف بالضبط أي خطاب أستخدمه في رسائلي لك سأكتب عن الموضوع. أحيانا أفكر بدمج مقالاتي التي أريد كتابتها في رسائلي لك، بذلك كما يقولون في عمان (حجّة بحاجة) أكتب رسالتي لك وفي منتصف الطريق أكتب مقالا للنشر، وهكذا أدمج بين الكتابة لك والكتابة التي أمارسها في الحياة في رسائلي لك! لا أعرف جدوى ذلك، لكنني سأجرب، حتى هذه اللحظة ليست لدي خطة واضحة في رسائلي لك، الذي أعرفه أنني سأكتب لك، ماذا سأكتب؟ وكيف ستسير هذه الرسائل؟ لا أعرف.

بدأ عقلي في التحدث معك، وهذا شيء جيد، عسى أن يثمر مع الوقت إلى توثيق لرحلتي وتغير أفكاري مع نموك. أعرف أن العمر يمضي بسرعة، وأعرف أنني يوما ما إن شاء الله لي سأقرأ هذا الكلام وأنا أقول في نفسي: كم ظننت ما ظننت؟ كأي تجربة في الحياة بين ما نتوقع وبين ما يقع، هذه هي الحياة يا ابني العزيز، ستعرف ذلك ذات يوم، ستخبرك الحياة بالكثير، ما بيدي هو أن أخبرك عن بعض ما في هذه الحياة، أما الحياة ككل، فهي أكبر من طاقة أبيك، وأكبر من طاقتك، هي هكذا، غامضة وواسعة، شاسعة وحازمة، صارمة في سننها، وجميلة رغم صعوباتها، فطرة بنا، ونزعة للبقاء. حسنا أيها الملهم، أيا ما كان العمر الذي تقرا فيه هذا الكلام، أكتب هذا الكلام اليوم وأنا أحبك، ابتسم أكثر في لقائنا القادم، صرتَ أجملَ ما في يومي، وعسى أن أكون لعمر قادم من أجمل ما تعيشه في أيامك.

 

أبوك الساعي لك للخير

معاوية

19/7/2025

الاثنين، 14 يوليو 2025

الرسالة رقم 2: العالم الذي نحن فيه!

 

الرسالة رقم 2: العالم الذي نحن فيه!

 

كانَ العالمُ، الكبير هذا، بكل تعريفاته هذا، يحمل تعريفاته البعيدة بعيدا. ماذا عساه أن يكون سوى ذلك الذي يحدث بعيدا. ليس عندما تكون أباً يا عزيزي الملهم.

العالم شيء آخر الآن، وفي الحقبة التي نعيش فيها عام 2025م هذا ليس عالماً لطيفاً للغاية. هذا لا يعني أن الحياة سيئة لأننا نملك بعض المعايير الفكرية أو القيمية. للحياة طريقتها في التمسك بنا، ونحن أيضا كبشر لنا طريقتنا في التمسك بها.

لست في أفضل حالاتي الآن، وأنا أكتب هذا الكلام. حتى تلك الطاقة لأرصف الكلمات بشكل جميل ليست معي الآن. أكتب بمزيج من التفكير باللغة الإنجليزية، وبالقليل من المشاعر العربية العاطفية، ربما لأنني بدأت أستوعب دروس الأبوّة مبكرا، ومنها ذلك الدرس السريع عن ضرورة إبقائك يا عزيزي الملهم بعيدا عن أي نقاش! والسبب ليس غريبا!

للناس قدرة عالية على حشر أنوفهم فيما لا يعنيهم، الجميع لديه نظرية، لديه فلسفة، ورغبة أحيانا في فرضها. البعض ممن لديهم حس تربوي عالٍ ينفعون في النقاشات، لكن وضعها للعموم بشكل كبير، خطا تعلَّم منه أبوك في اليوم الثاني! كنت أظن أنني سأستخدم النشر طريقة للتعلم، يتضح لي، كلا، ثم كلا! أنت ابني أنا فقط، لست ابن الناس، لست ابن العالم، حتى أؤدي واجبي بعدها وتندمج مع العالم بروحك الفردية الخالصة، وبالاستقلال الذي من واجب أن أهيئك عليه، ستبقى يا ابني العزيز منطقةً خاصة سأفتك بكل من يظن أن الاقتراب منها ممكن.

من المبكر أن أخبرك عن العالم الذين نحن فيه، لأنني لست في هذا العالم، أنا مرهق للغاية، لا أنام، لا أركز في شيء، لدي امتحانات تنتظرني، وبدأت أعيش تلك القناعات الجديدة حول منطقتي التحكم والتسليم!

كنت أظن أن العالم ينقسم إلى منطقتين، منطقة التحكم وهي التي نستطيع فيها أن نخطط، ونفكر، وننفذ، ومنطقة التسليم، تلك التي ليست بيدنا أبدا، بيد الظروف بشكل تام. اليوم فقط أكتشف المنطقة الرمادية التي ليست بيدي، وأن طاقتي، وصحتي لها سقف. هذه الدروس التي وصلت لخلاصاتها اليوم، أتمنى أن أجد وقتا أكثر للكتابة، وأن أسردَ لك كيف كوّنت منهجي التربوي تجاهك، حاليا لا منهج تربوي سوى تطبيق المنهج العلمي المتعلق بالنوم، والأكل، وبعض التقنيات الصغيرة التي تساعدك على أن تنمو بشكل أفضل. لقد أكملت أسبوعاً واحدا في الحياة عزيزي الملهم، ليس لدي الكثير لأقوله لك سوى أن مشاعر تجاه جميع الآباء قد تغيرت، لقد عرفت الآن لماذا يتعبون، ويعجزون، ويشعرون بأن هذه التحديات وإن كنت تعلم الصواب عنها إلا أن قدرتك على فعل كل هذا الصواب ليست في متناول اليد، ثمة سقوف أمام كل أب، وما أن يعرف هذه الحقيقة يجب عليه أن يسيّر الحياة بما هو متاح، من الوقت، والجهد، والمال، والقُرب من العائلة.

ذهبت السكرة، وجاءت الفكرة، هكذا قال شاعرٌ جاهلي ذات يوم. إن كنت تقرأ هذا الكلام في عُمر وقد وصلت إلى لوحة المفاتيح، وبدأت تبحث فابحث عنه واقرأ حكايته على إخوتك. ويعلم الله! لعلك الآن تسأل نظارتك الذكية لكي تخبرك عن الذي يقوله أبوك في عصره البدائي عندما كنا نستخدم لوحات المفاتيح. بالمناسبة عزيزي الملهم، لقد وجدت لوحة مفاتيح نادرة واستثنائية وتكتب بسرعة عالية! هل ستكون هي اللوحة المناسبة في زمان؟ أم ستكتبون بالتأمل فقط؟ عليَّ أن أنتظر الوقت والحياة لكي أعرف أي عصر تقني ستعيش فيه.

عصرنا الآن هو عصر الذكاء الصناعي، هذه هي الدهشة التي نعيشها الآن، دهشة السرعة وتنظيم الأشياء، الألعاب حتى هذه اللحظة لديها أجهزة سوف تصفها أنت بعد سنوات بالبطيئة، والبدائية، كل شيء بدائي بالنسبة لك عندما تقرأ هذه الرسائل من أبيك.

ينصحني الناس نصائح غبية للغاية، جعلتني أشمئز من فتح أي نقاش مع إنسان جاهل يظنُّ أنَّ نظريته في الحياة يجب أن تطبق على الجميع. أتبع منهجا علميا في تربيتك، وفي التعامل معك، وأتأقلم مع بضع الأفكار الاجتماعية الشائعة على مضض، لأنك ستعيش في مجتمع، وجزء من واجبات الحياة هو التعايش مع هذا المجتمع بما لا يجعلنا نخسر جوهرنا العميق، وما كوّناه من استقلال ذهني، ومن وسائل حماية من الانزلاق نحو الممالأة، أو التوكيد الأعمى على أي حقيقة يظن البعض أن شيوعها يعني بالضرورة صحّتها.

كل الذي يتعلمه أبوك وأنت في أسبوعك الأول يتعلق بصحتك، وغذائك، ويحاول التعود على ظروفه الاجتماعية التي تفصلك عنه رغما عن أنفسه. لم أتصالح مع هذه الحقيقة لكنني لا أفوّت يوما دون أن أسلّم عليك، وأن أطمئن إلى هدوئك في حضوري، وأنك تعرفني، وتعرف صوتي، وتطمئن إلى راحتي، هذا الرابط الذي لا أريد يفوتني تكوينه. السنوات الأربع الأولى في حياتك هي السنوات الأهمُّ لوجودي كأب.

لا أخفيك يا عزيزي الملهم، أنني أحيانا أكتب بروح الوصية، كما أخاف أن تخسرني، وكم أخاف عليك. شعور لم يكتب الله لأحد أن يجيد وصفه، ولن يكون أبوك هو الكاتب الخارق الذي سيصف ما لا يوصف، أعرف أنني أحبك، وأعرف أنني أحببتك، وأعرف أنني انتميت لك، وأن كل هذا التعب يهون في تلك اللحظة التي أرى فيها ابتسامتك وأنت هانئ، تُمارس هوايتك المفضلة حاليا: النوم طوال الوقت!

يزعجني الناس عندما يمارسون التعزيز الذهني لمشاعر سلبية، عن الأبناء وهم يبكون دائما، الجميع يشتكي، هذا من المصاريف، هذا من قلة النوم، ما أحاول فعله هو أن أقنع نفسي أن الأبوَّة هبة من الله ليرتقي الإنسان إلى ذاتٍ أكثر نبلا، وأعظم طهرا، وأصفى نقاءً. أدعو الله دائما لك بالسلامة والعافية، وأدعو لنفسي بالثبات. أشياء كثيرة الآن تظهر لي في المنطقة الرمادية الجديدة علي، وبدأت أستخدم كلمة (لو كان بيدي) هذه الكلمة التي طالما سمعتها ولم أفهم معناها! لو كان بيدي المزيد من الوقت، لو كان بيدي المزيد من المال، لو كان بيدي المزيد من الذكاء، لو كان بيدي المزيد من العلم والوعي، لو، لو، لو وستعرف يا ابني العزيز لماذا أكواننا الذهنية أشد اتساعا من كوكبنا الواقعي، نحن كائنات تحلم، تتخيل، تتأمل، تنسج المنطق من الذكريات والأفكار، بل وحتى الأحلام، لكننا في النهاية أمام الواقع سواسية، كلنا نملك الوقت نفسه، وكلنا لا يستطيع ابتكار المزيد من الزمن لكي يطبق ما يظنه صوابا.

أبوك حتى هذه اللحظة لم يجلس إلى لوحة المفاتيح كما أراد، لم يجلس على البيانو لكي يهدئ من أعصابه كما أراد، يعاني كثيرا من الحر، والوحدة، وتغير الظروف، ووجودك في منزلٍ غير منزلي لا يساعدني على الاندماج أكثر في تحسين ظروف وجودك، والأهم، حياة والدتك التي لم تعد فقط زوجةً لي فحسب، هي الآن أمُّ ابني الوحيد، وابني الوحيد هو أنت حالياً، لذلك يا عزيزي الملهم، إن كتب الله لي أن تكبر، وأن تقرأ هذه المقالات سواء في مدونتي، أو أهديك كتاباً سنويا كنت أكتبه وأنشره لك بينما أنت تكبر! إن تيسر ذلك لك ولأبيك، لعلك ستضحك عندما تقول: ما بال أبي يعيش هذه اللخبطة الهائلة، ما بال أفكاره؟

أرجو أنني لن أكون أباً (يسامعك) ليل نهار بما تعبه من أجلك، أرجو أنني لن أكون أبا متنصلاً يكل أمرك للحياة، وأرجو أنني لا أكون أبا متحكما شديد السيطرة يظن أنه سوف يسيطر على جميع الظروف، أرجو أن أكون أبا متزنا، يحكّم  العلم عندما يُحكَّم العلم فقط، ويحكِّم القلب عندما يُحكَّم القلب فقط، يفكر ويقرر، ويحب ويعيش. سأعرف مع الوقت ما هي خصالك، وماذا ورثتَ، وماذا تكتسبُ، وسأعيش هذه التجربة على أمل ألا أخطئ في شيء يضرك، وأعيش رعبي، ومخاوفي، واستباقي لبعض الظروف في شؤون النمو، أبوك حاليا طالب في علم النفس في السنة الثالثة، عندما تقرأ هذا الكلام أي أبٍ سيكون لديك؟ رجل أعمال بخلفية علم نفس؟ موظف يقرر ثروة الوقت قبل ثروة المال؟ أما باحث في علم النفس؟ أم معالج نفسي؟ أم أحقق حلمي في إنشاء مركز للنوابغ، وللرياضات الذهنية، والرياضيات، والرياضة، وتنس الطاولة. في أسبوعك الأوَّل كل المستقبل الذي أفكر به هو اليوم الذي تقرأ فيه هذه الرسائل، عدا ذلك يا عزيزي الملهم، أهنئك على إتمامك أسبوعك الأوَّل، سأحتفل في قلبي بك كل يوم، سأحتفل بكل يوم من أيامك، وأسأل الله العلي القدير أن يكتب لك الخير، والسداد، وأن تنشأ صالحا، وأن يحيطك بالصالحين الأنقياء، وأن تفعل الصواب دائما، وأن تفكر قبل أن تقرر، وأن تفكر قبل أن تتكلم، وأن تعرف أن هذا العالم ليس كاملا، وأن الخير موجود، والشر موجود، وأن الناس ليسوا سواسية، لا في أوقاتهم، ولا في أمزجتهم، ولا في لحظاتهم.

سأكتب لك كثيرا يا ابني العزيز، سأنصحك كثيرا، وسأتغير مع الوقت، وستكبر مع الوقت، وسنعرف مسارنا، وقدرنا، وإلى حين أن يكتب الله لنا ما يكتبه، أرجو لك السلامة والعافية أيها الملهم. أحبك كثيرا، أحبك جدا، أحبك بكل ما في قلبي من قدرة على الحب.

 

أبوك الداعي لك بالخير

معاوية

الأربعاء، 9 يوليو 2025

الرسالة رقم 1: أن تكون أبا!

 

 

 

رسائل المُلهم

الرسالة رقم 1: أن تكون أبا!

 

لا أعرفُ متى ستقرأ هذه الرسائل! ولا أعرفُ من سيقرؤها من أبنائي. هل كان يجب أن أوجهها إلى بناتي الغاليات، وأبنائي الأعزاء؟ أم يكفي أن أوجه هذه الرسالة لك يا ابني العزيز (المُلهم).

لأضع القليل من السياقِ في رسالتي، هذا ما أكتبه في صباح التاسع من يوليو لعام 2025م. أنت الآن في يومِك الثاني، وقد ابتسمتَ لي للمرة الأولى، قبل نصف ساعةٍ من الآن عشتُ معك مشاعر مُنعكس القبض ((Grasp Reflex أبوك الآن في اليومِ الثاني من أبوَّته، وأنت أيها الملاكُ الصغير في يومك الثاني، تكتشفُ الأصوات، وتفتح عينيك قليلا، وتنام معظم الوقت.

لأصدقك القول يا عزيزي المُلهم، لا أعرف أي خطة لي في هذا الكتاب! لحظة! هل قلتُ كتاباً، هل هذا الذي أنويه؟ أن أكتب كتاباً لك؟ أعرف أنني يجب أن أكتب لك، لأسباب كثيرةٍ للغاية، منها روح الوصيّة الجديدة عليَّ، والشعور المنطقي بالخوف عليك من أن يسترد الله روح أبيك قبل أن يتمَّ عليك ما أرد قوله. الكتابة بشكل عام شكل من أشكال الوصية، ولسبب ما في اللغة تحمل الوصية معنى النصيحة، وتحمل أيضا معاني الوداع الذي لا أتمنى أن يكون قريبا.

لقد أودع الله الكلمات التي تصف شعور الأب الذي يعانق ابنه للمرة الأولى في لوحه المحفوظ، وعصمها عن ألسنة الناس، أبوك الذي كان يسخر من (الكليشيه) المتداول الذي يقول: "لا كلمات تصف الذي أشعر به" يقف متأتئا وهو يحاول أن يجمع من الكلمات ما تيسّر لكي يصفَ فرحة وصولك.

أتساءل يا أيها الملهمُ عن الخط الذي ستأخذه هذه الرسائل، ألف سؤال يضرب في رأسي، وفي الوقت نفسه، الحقائق الحتمية تتهاطل أمام عيني كحقيقة ذلك الشعور الجديد الذي شعرتُ به عندما استيقظت صباح اليوم لأكتشف أنني أحتاجُ إليك!

شعور غريب للغاية. يشبه قبضة جميلة في القلب، يشبه شوقاً لا ترتوي منه، يشبه حبّا لم أعشه من قبل، يشبه شيئا ما لا أعرفه، ولم أعرفه إلا في اللحظة الأولى التي وقعت فيها عيني عليك: "هذا ابني!"

لا يملك الآباء لغةً يعبرون بها عن حبّهم لبنيهم، ليس لأنهم لا يشعرون، بل لأن الكلمات التي يحتاجون لها غير موجودة من الأساس، لذلك، وأنت تعذر أباك يوما ما بعد أن تصبح أباً، ستعرف تماما ما الذي أشعر به من قلة الحيلة أمام عجز اللغة عن الوفاء بهذا الوجه الأسمى من أوجه الحب، حبِّ الأب لابنه.

عرفت من اليوم الأوَّل أنني مستعد تماما للموت من أجلك، وبعد يومين من الانشغال التام بك من النهار إلى آخر الليل، عدت الآن إلى ورقة الكتابة البيضاء لأكتشف أن الأمر لا يتعلق بالموت من أجلك، بل بالحياةِ من أجلك فقط. هذا هو السرُّ الأوَّل الذي يتكشِف لي من أسرار الأبوَّة.

الأمر لا يتعلق بالدافع! مطلقا لا يتعلق به. الدافع الذي يصيبُ بعد الأبوَّة يحتاج إلى تساؤلات منطقية كثيرة، فهو غامر، وعاصف، وكفيل أيضا بأن يقصف العُمر إن لم يكن الإنسان متعقلا وعرف متى يعطي كُل شيء حقَّه.

الصحةُ هي أوَّل الشموع التي قد يحرقها الأبُ من أجل بنيه، وهي في الوقت نفسه العائق الرئيسي الذي قد يعيق الأب عن تحقيق أحلامه في بنيه، شيء عملي بحت من أشياء الحياة، مادي للغاية، له علاقة بكتلة اللحم والدم التي نتكون منها نحن البشر! ويا إلهي! أي توازن مستحيل هذا! أي عقل في هذه الحياة بمقدوره التوفيق بين كل هذه المعطيات البشرية ليخرج منها بأفضل نتيجة ممكنة؟

عندما كانوا يقولون: مصيرك ستخطئ، والخطأ وارد! لم أكن أدرك أن السبب هو مزرعة التعقيدات هذه، لأنها حقاً فوق طاقة أي إنسان على التحكم بها، ولذلك، لا يخلو الأمر من شيء من التسليم.

والحياة هكذا يا ابني، ميزان بين التحكم والتسليم، تفعل الذي عليك، وتجتهد، وتأخذ بالأسباب، وبعدها بعد أن يفرغ كل شيء يمكنك فعله، يأتي التسليم للقدر وللظروف. صفعةٌ قاسية بعض الشيء في وجه هذه الإرادة الهائلة التي نزلت على قلبي، وفي الوقت نفسه الإرادة التي تكفي لحرق عُمر مبكرا إن لم أنتبه إلى هذه الحقائق الحتمية التي يجبُ أن أكتشف ميزانها إن أردت حقا أن أعيش لأجلك، وأن أعيش معك، وأن نكمل حياةً لا بأس بها، وأن تكبر معي، ولست أدري يا ابني الملهم، هل سأصل للسبعين، أم لن أفعل! هذه من أسئلتي التي تحاصرني، جزء منها بيدي، واهتمامي بصحتي، وعنايتي بأبيك، وجزء منها ليس بيدي، يكتبه الله، ولا رادَّ لقضائه وحكمه.

بنوّتك يا قلب أبيك كانت يقظةَ حتميةً أخرى. أن يكتشفَ إنسانٌ أن كل هذه المشاعر كانت بداخله من الأساس، ولدت معه، عاش بها، يحملها في كنفه وتأخذه إلى هذا المسار منجذبا إلى مغناطيس استمرار الحياة بالحياة. قبل يومٍ من ولادتك، كنت زوجاً قلقا، خائفا على صحة والدتك، خائف عليك، بعد ساعة من ولادتك بدأت شعور جديد في قلبي ينمو! شعور من الصعب وصفه!

أشعر بشيء في قلبي طوال الوقت، شيء لا يهدأ، شعور ربطني بك بطريقة يعجز عقلي عن تفسيرها. أحملك في يدي لأكثر من ساعة، أتابع عينك الناعسة وهي تتقلب ذات اليمين وذات الشمال، أتابع بفرحة هائلة تجشؤك، أسأل عن كل صغيرة وكبيرةٍ في معمعة الولادة الجديدة، وهي حكاية سأسردها عليك عندما أستعيد حسَّ الفكاهة الذي تلاشى الآن مع إرهاقي الشديد.

ستعرف يوما ما أن أباك ليس قادرا على كل شيء، كما أعرف الآن أنَّ أبي لم يكن قادرا على كل شيء. أبوك الآن مرهق للغاية، متعب ويجد صعوبة هائلة في أن يكتب المزيد من التفاصيل. هذا هو السياق الذي بدأت فيه رسائل لك، عندما أحببتك، وعندما عرفت إنك دخلت قلبي، وأن عقلي مشغول بك، وأنني في اللحظة التي تركتك فيها مع والدتك وعدت للمنزل وحدي عاد ذلك الشعور الذي في قلبي للازدياد، شوق مكهرب، انجذاب وقبضة، شعور جميل للغاية، لكنه في الوقت نفسه ناقص، كجمال مزهرية أنيقة، لكنها بلا وردة.

سأتعلم كيف أرتب هذا التداعي الحر مع الوقت، أرجو إنك عندما تقرأ هذا الكلام ستكون قد عرفت أباك جيدا، وعشقه للكتابة، وستعرف أن له حكايات كثيرة، ولعل هذه إحدى الأسباب التي تدفعني للكتابة لك، وأعاهدك أنني إن لم أستطع على قول الصدق، فلن أكذب عليك، هذا عهدي لك يا ابني العزيز، لعلك يوما عن تشبُّ ستعيش أسئلتك، ولعل هذه الرسائل ستساعدك يوما ما على فهم ظروف نشأتك، وعلى تتبع أيامك، وعلى فهم أيام أبيك، وسياق حياته، لعلها ستنفع في شيء ما، أو ربما ستنفع في أشياء كثيرة، هي وصية، ونصائح، هي يوميات وسيرة، هي تأملٌ من طالب علم نفس، ومن أب يدخل عالم الأبوَّة في عامِه الثاني والأربعين، هي رسائل إنسان جاهز لكي يموت من أجلك، ولكنه أيضا يعيش ألف سؤال في ماهية الحياة من أجلك، ومعك. هذه أسئلتي يا عزيزي الملهم، ولكل إنسان أسئلته، والإجابات ليست سهلة المنال.

أبوك مرهقٌ للغاية، ويريد أن ينام الآن، وينتظر بفارغ الصبر أن يراك غداً، ولو لاستراقٍ بسيطٍ بين جموع الزائرات، وكل ما جعلته التقاليد مناسبةً نسائية بحتةَ. وأنا أختم هذه الرسالة، يعود ذلك الشعور مجددا إلى الخفقان، ذلك الشوق المغناطيسي الجديد عليَّ. أراك غدا يا ابني الغالي، أراك غدا بإذن الله.

أبوك الساعي لك بالخير

معاوية

 

 

 

 

الخميس، 3 يوليو 2025

حقنة من القلق

 عشتُ سنوات العشرين والثلاثين كائنا شديد القلق، بمعنى الكلمة شديد القلق، ولا أقصد ذلك القلق العادي، مثل الذي ينتظر امتحانا، أو متوتر أمام مقابلة عمل.

القلق، الوجودي، العاصف. ومهما تكن عند امرئ من خليقة، وإن خالها تخفى عن الناس تُعلم!

الجميع يعلم قلقي الشديد، ولا سيما تلك الفترة التي كنت أنسلخ فيها من كائن ساذج بمعنى الكلمة، سهل الخداع، عُرضة للسخرية، إلى هذا الكائن الذي أصبح قاسياً بشكل أنا نفسي صرت أخشى منه! 


إنها السنة السادسة الآن منذ أن بدأت قراراتي تتخذ مساراً طبيعيا، وهادئا، اعتزال معمعة الرأي العام ومواجهات الخطابات، اعتزال بشر، ومنظومات، وقطع علاقات مع بشر إما بعداوة وخصومة، أو برماد اختلاف الاهتمامات، ولا سيما هذا الذي صديقك فقط وأنت من سجن إلى سجن، من مشكلة إلى مشكلة، لكن وأنت بخير! ينقلب عليك انقلابا يجعلك تتساءل، هل هو حقا صديق؟ أم إنسان يعيش جبنه، وخوفه، وكراهيته عبرك!


لم أكن أحسب أثر قلقي على حياتي الاجتماعية، وأنا إنسان لم يتغير كثيرا عندما يتعلق الأمر بما يمكن أن يفعله عندما يكتشف أنه خُدع، أو يتعرض للاستغلال، أو ينتبه ولو متأخراً إلى إنسان كان يراهنُ على وهم أنني شخص طيّب! غضبي عاصف، وأكاد أصفه بالخطير، واستعدادي للدفاع عن نفسي فعليا وعمليا لا أعبأ أن يوصلني حتى إلى موتي! لن أسمح لنفسي أبدا بأن أتقبل عدوانا من أي شيء، كما لن أسمح لنفسي أن أكون البادئ بالاعتداء! هكذا أعيش، لا ضرر ولا ضرار، وهذا ما أحاول أن أثبت عليه، أن أبقى في مححيط ردة الفعل فقط.


مع نهاية تلك المعمعة الشعواء، بدأت أكتشف ضرر القلق على العلاقات الاجتماعية التي حولي. وكيف إنه في عالم البشر الطبيعيين، كمية عالية من القلق تعني إفساد الجو تماما. أن تكون غاضباً من أي شيء هذا موضوع، لكن أن تفجر غضبك في النادل في جلسة عشاء مع الأصدقاء هذا شيء آخر.


فقط، بعض الهدوء الذي بدأ يكتنف حياتي بدأت أرى الجانب الآخر مما يسمى بشكل عام (العصبية) والتي قد تكون (العصابية) أقرب.  وبدأت تجارب الحياة تظهر أمامي، هذا الذي وصل إلى منصب مرموق وأصبح عصابيا لا يُطاق، وهذا الذي لا تطيق أن تركب معه في سيارته من فرط ما يسب ويشتم كل أحد، مستعد لخوض أي معركة في الشارع، وهذا الذي من شدة الضيق يفتك بالطالع والنازل، ما أن يمسك لسانه موضوعا إلا ويجعل المكان خانقا، وسامّا، ولا يطاق.


الهدوء إجابات على أزمنة مصائبك. وهذه من الإجابات التي وصلتُ لها، وشكلت لي إجابةً عن السبب الذي جعل كثيرين بشكل مُحق يبتعدون عني تماما، هذه ضمن الخسارات الخفية لأي إنسان يختار عالم المواجهات العلنية، وسواء كان على حق، أو على باطل، إن كان العبء الانفعالي الذي عليه عاليا، سوف ينعكس على من حوله عاجلا أو آجلا.

إن كنت تتساءل لماذا ينفض الناس من حولك، ولماذا يدور حولك بعض القيل والقال، أو لماذا في حال مجيئك أو وجودك يتجنب البعض الحضور ليس لأنه يتخذ موقفك تجاهك، وليس لأنه يحسدك، فإن أحد الأسباب هي كمية العصابية التي تحقنها في الذين حولك.

وبالطبع، الحياة ليست رحلة رومانسية، الضغط النفسي الشديد يجعلك رغما عن أنفسك في هذه الحالة القلقة، والمعيار هو طول هذه المدة الزمنية، وتكرارها مع الأشخاص نفسهم، عامان من القلق الشديد وتجاوز الصدمة لا يمكنها أن تمر دون أن تحقق أثرا كاويا على علاقات تنشد الهدوء، والحكمة، والاتزان، وأحيانا شيء أبسط بكثير مثل: قضاء وقت ممتع.


منذ عامين وأنا أحاول التأكيد على مدركاتي الذهني أن هذا هو الصواب الذي يجب أن أفعله، لا أنجح دائما، ولذلك عندما أصل إلى تلك الحالة من الهلع، أتجنب الناس، أتجنب الكتابة، أتجنب أشياء كثيرة حسب طاقتي على التجنب.

المثير للغيظ في المسألة، أن القلق الذي يبعدك عن الناس، يصنع قلقا نتيجة بعدك عن الناس، لذلك هو قضاء وقدر أحيانا أن تكون حول البشر، وأنت ويومك، وأنت وهرموناتك، وأنت وأفكارك التي تذهب بها أو تذهب بك يمنة ويسرة، من هذه الظروف المركبة تنشأ الحوادث المزعجة التي تقودنا إلى هذه الخسارات الصغيرة المتراكمة.


الذي يحقن قلقه في الآخرين من واجبه تجاه نفسه أن يجد طريقةً لكي يخفف هذه الخسارات الصغيرة، لأنها مع الوقت ستتحول إلى انطباع عام، وحتى لو تجاوزت حالتك التي سببت لك هلعك، ربما ستجد أن قلقك ذلك يعود إليك على هيئة إنسان أدنى تصرف منك كفيل بجعله يتوتر تجاهك بشدة، ليس لأن ذلك الموقف الصغير يستحق، لكن لأنك أقلقته بما يكفي وأوصلته إلى التأهب التام لتجنب أي توتر يمكن أن تسببه له.


أما عندما يكون الأمر نتيجة طرفين قلقين! أهلا وسهلا بدراما العلاقات، والخصومات، والحوارات الكاوية!


ونعيش ونتعلم!

الأربعاء، 2 يوليو 2025

منطقة أخرى غامضة!

 الكاتب الحقيقي، موجود في سطوره، في عقول وقلوب قرائه، كاتب لا يموت، ترك أثره، وكتب، أما وجهه الخارجي فهي ليست أكثر من أسمال بشرية بالية مصنوعة من الطين تهيم على وجهها في الأرض. الوجود الحقيقي للكاتب هُناك فيما كتب، أما باقي الشكليات المادية هذه فليست أكثر من كائنات من لحم ودم تحاول الحياة. هذا هو الفهم الناقص الذي يجعل الكثيرين ينسون أن القارئ يصنع الكاتب، وهو الذي يدفعه للاستمرار، وهذا الانغراس التاريخي في الذاكرة العامة (بجودته أو برداءته) هو حقيقة وجوده الجوهرية.


الغارقون في تقديس الإناء. الكتاب المجلد الأنيق، أو المحافل الثقافية الباهرة، هل هذه حقيقة الثقافة؟ 

حقيقتها هي ورطتك في الحياة، ولعنتك مع ما رميته من تفاعلات نصيّة أمام وجه العالم.

أن تكون (شخصيةً) مثقفةً، هذا دور مهني بحت، ليس سيئا، ليس خطأ، بل هو جزء من كونك تحترم السياق المهني للمجال الثقافي.


لكن أن تصول وتجول في حقول الثقافة، وأنت لا تكتب! لا ترسم! لا تعزف! أن تصول وتجول في عالمها وأنت لا تكتب هُنا السؤال!


الإناء ليس مهما، أين تقول شعرك ليس مهما، هذه اعتبارات غير موضوعية، المهم إنك تكتب، وما تتركه، وما يترسخ عبر السنوات بينك وبين قارئك هو الذي يصنع وجودك الذي بعده لا يعود وجودك المادي مهما!


الإنسان الذي من لحم، ودم، يبحث عن الرزق، ويمر بالإفلاس، والمرض، ويخاصم، ويصادق، ويحب، ويكره، هذا وجوده الجانبي، الهامشي، أما وجوده الحقيقي فهو حيث كتب، وما بقي، وما ترك أثرا، وما صنع هويته الغامضة في عالم المعنى الذي لا يملك مقاليده أحد.


أن تكتب، يعني أن تكتب، تستمر في الكتابة، لا تتوقف، فهي ليست موهبة، وليست هبة، وليست هدية من السماء، وليست اعتبارا أو مكانة، هي تراكم طويل المدى، يترسب مفعوله الجيد أو السيء مع الوقت.


أمَّا مرور عشر سنوات منذ آخر مقال أو قصيدة، والحياة على الرخصة الثقافية التي تتأتى من المحافل الاجتماعية، هُنا ثمة علامة استفهام تُطرح، وفي النهاية، كل إنسان بينه وبين قارئه ما بينه وبين قارئه، (سر المهنة) الذي لا كاتب في هذا الكون سيجرؤ على أن يبوح به.


القارئ معلم، صديق، خصم، عدو، أخ، عائلة، وطن، مجتمع، سجن، حرية، حقائق بعدد أنفس الخلائق. ويكفيك عندما تلقى قارئك الحقيقي أن تقف متواضعا أمامه، فهو الذي يعرف كل نسخك التي نسيتها، ويذكرك جيدا، والقارئ الذي يذْكرك، هو القارئ الذي يُذَكِّرك، ولذلك، كاتب دون أن يكتب ليس أكثر من إنسان يقاوم الموت. وقد يموت وهو على قيد الحياة!


أي موت شنيع هذا عندما تفقد قدرتك على الكتابة!

الثلاثاء، 1 يوليو 2025

شؤون ملكية

 جالس يلفت انتباهي موضوع الأمير هاري (سابقا) وميجان! وأتساءَل عن استمرارية علاقة مثل هذه؟

لأن الفرضيات كثيرة، ومنها (وافق شنٌّ طبقه). الأمير المتمرد على التقاليد الملكية، مع تراكمات هائلة كونه (الاحتياطي) غير صدمة خسارته لوالدته ومحاولته ربما البحث عنها في مختلف النساء. 

وممثلة رأسمالية أمريكية لا أظن أن أحدا يرتاحُ للمشهد العام الذي تصنعه؟

أتساءل حقا، هل يمكن لهذه العلاقة أن تستمر؟ ألن يأتي يوم وينتبه هاري إلى أنَّه يسحق كل ما نشأ وترعرع عليه؟ هويته، وطنيته؟ مسؤولياته الملكية؟ من أجل ماذا؟ ومن؟ ممثلة أمريكية رأسمالية تسحبه سحبا إلى صناعة تاريخ مهني مليء بالتمثيل، والأفلام، والمقابلات؟

من المستفيد حتى الآن من هذه الزيجة؟ أليست ميجان؟ هذا ما يتم تأطيره بقوَّة وبشدة من قبل وسائل الإعلام، تبدو ميجان كما لو كانت هي الشيطان فقط في المعادلة.

ولكن ماذا عن هاري؟ المندفع لتحطيم الكثير، هل هو فقدان الشعور بالمعنى في الحياة؟ أم ببساطة تسجيل اللطمات الأخيرة التي يمكن أن يلطمها للنظام الملكي المترسخ؟ ما يبدو للمشاهد الخارجي نظاما ملكيا، هو أيضا (عائلة) بالنسبة لهاري الذي حضر غريبا، بلا زي عسكري، مع ألف تساؤل عن هذه العلاقة وتذهب إلى أين.


أعرف أن لكل إنسان رأي، وأعرف أن الرومانسيين في الحياة يشعرون أن الحب ينقذهم، وفي الوقت نفسه ثمَّة جانب نفسي لا يمكن تجاهله على الأقل على سبيل التكهن، كلاهما به نزعات الآخر يكملها، الهوية البديلة التي تقدمها الممثلة الرأسمالية الأمريكية للفتى الملكي البريطاني (والعسكري أيضا).


كتابه، حديثه عن القتلى الذين فتك بهم، سعيه الرأسمالي لاستخدام اسمه وحكايته لحلب أكبر قدر من المال، اعتناقه هذه الحياة شبه الأمريكية، وماذا بعد؟ بعد المال؟ بعد النجاح؟ بعد التحقق؟ ماذا بعد؟ ألن يضربه ذلك الخواء، ذلك الحنين الجارف لهويته الأولى؟ وعندما يصبح أخوه ملكا لبريطانيا، هل سيعود عودة السند العائد إلى طريق الحق والصواب؟


أعتقد أن هاري يعرف جيدا أن علاقته بالممثلة الرأسمالية الأمريكية شيء هي التي تتمسك به بجنون، بقدر ما يبدو الواقع الخارجي وكأنها هي التي تؤثر عليه، هي التي تسحبه، هي النرجسية المخادعة، لكنني حقا لا أظن ذلك.

مقاييس الربح والخسارة مختلفة، هاري له خط رجعة، أسس شخصية المتمرد بما يكفي، صنع لنفسه البريق الإعلامي الذي يعطيه أفضلية وقدرة على إعادة تصويب السياق، ماذا عن ميجان؟ بنقرة زر يمكن أن تُشيطن، وتخسر كل شيء.


إنها صفقة عالم الضوء والنفوذ، عالم الوصول الملكي الفلكي، لكن ليس هاري هو الطرف الضعيف، رغم ما يبدو عليه كل شيء، هو الطرف المهيمن، المسيطر، الذي يمكنه في ثانية واحده أن يلعب دور العاشق المكلوم ضحية (النداهة الأمريكية) التي سحرته وخربت بيته وزعّلت عليه باكجنهام وضواحيها..


إن كان ثمَّة طرف حقاً يعلم الذي يفعله، فهو هاري، ليس غبيا، وليس عفويا، وليس عاديا كما يريد أن يبدو، أما عن الممثلة الرأسمالية الأمريكية فكما يبدو هي تعيش الحكاية قدر ما تستمر، تحشد ما استطاعت من المال والحال، وتتمسك بهلع بهذه الزيجة فهي على عكس زوجها ليس لديها حياة أخرى بديلة تعود لها، ستصبح زوجة أمريكية أخرى ضمن نصف الزيجات التي نهايتها الطلاق، ووقتها لا أحد يعرف كيفية افتراق الطرق! 


أبعاد سيكولوجية كثيرة في هذه الزيجة، والمؤكد أنَّ ما يُراد تأطيره أمام المتلقي هي سرديات عديدة، قادمة من طيّات النفس البشرية الحانقة، المشحونة بالمواقف، هذا ما أظنه عن هاري، يعيش رحلة تصفية حسابه مع ذاته، ومع معناه، وعلى الهامش رحلة اتخاذه الموقف الكبير، إلى أن يحين الوقت الذي تتناقض فيه الخيارات، إلى أن تفوح أخبار عشيقة دخلت على الخط، وطلاق عالمي يسيّل لعاب المجلات والصحف التي يدعي أنه يشتكي منها!


لا أندمج مطلقا مع هذه السرديات التي تتقيأها الصحف والبرامج ليل نهار، هذا العالم علّمنا عشرات المرات أن مثل هذه الحكايات لها نهاية، ومثل هذه الحياة الساخنة، المليئة بالدراما لها (قفلة) .. كيف ستكون هذه القفلة؟ لا أحد يستطيع التقين، لكن هل حقا نهاية هذه الحكاية عجوزان اثنان يكتبان يوميات أمير سابق، وممثلة رأسمالية أمريكية استطاعت إنقاذ أميرها من حياته الملكية؟ 


أراهن أن ميجان ستخرج الخاسر الأكبر من هذه الحكاية، أما هذا البريء ذو الشعر الأحمر، والعيون المليئة باللوعة والحسرة على ضياع المعنى، أظن إنه يحسب حساب كل شيء، لا أعتقد أن به ذرة من العفوية، وإن كان على ميجان، بكل ما تمثله في هذه الحياة من مادية، ومن شكليات، ومن مسلسلات، وموضه، وبرامج، أجدها على عكس السردية الشائعة أبسط، وربما أكثر نقاء من هذا المشروع التاريخي الكاوي الذي يمثله هاري!


على أية حال، لا أحد يعرف الحقيقة!


ننتظر ما تسفر عن المآلات!

من ظاهرة آمبر هيرد ومستر جوني ديب، والآن الأمير هاري والممثلة الرأسمالية ميغان ساسكس ماركل. الزخم الإعلامي.


لست من نظرية هاري الضحية أمام الساحرة الأمريكية، ولدي فضول شديد لمعرفة المآلات القريبة والبعيدة. التلاعب بالجموع، وصناعة سردية محكمة، وحلب هذه السردية كما يحلب ضرع البقرة الحلوب، الزيارات، المقابلات، الرأسمالية، المنفعة، كلها أفكار تتجمع في هذين الشخصين وحكايتهما.


تابعت باشمئزاز تام تلك المقابلة، الضحلة، بكل ما بها من ابتسامات متكلفة ومزيفة، حاولت التقاط شيء ما لعله ينفعني في ربط معارف علم النفس مع الواقع، لم أجد شيئا يذكر. ثمَّة من يتمسك بسرديته، يحافظ عليها، يستخدمها كمنتج.


هذا هو وضع هذين الاثنين حالياً، صُنَّاع مُنتج يباع. ولعل هاري كان يعلم جيداً أن هذا المسار أربح له (ربما ليس أنفع) لكنه قطعا أربح له من ملاحقة ما تيسر من المنافع الملكية. 


هل هو موضوع وقت؟ ونرى نسخة هوليودية من الأمير السابق؟ نسخة البرامج، لأن هذا الإنسان بارع حقاً، بارع في التلاعب بالسياق، بارع في إحكامه، وصناعته، بارع في هذا التحالف الرأسمالية مع ميجان التي تبدو للجميع كما لو كانت هي التي تدير اللعبة نيابة عنه. 

لست مع هذه الفرضة، وأصر بشكل ما أو بآخر على أن الذي يحدث هو العكس، هي أداة في يد إنسان ينتقم من ذاته السابقة، العائلة التي ربما يراها قتلت أمَّه، من السياسة، من الأنظمة الملكية. يصنع الضوء مستثمرا ما تأسس له من قبل نتيجة سياق مغاير، وهو الآن حرٌ طليق، من الالتزامات، حتى هذه العائلة التي توصف بالملكية أصبحت جزءا من سرديته.


حالة فعلا تستدعي التساؤل، وتستحق التأمل. كيف لعائلة ملكية بريطانية أن يخرج منها هذا الجامح؟ موقفه أقوى بمراحل من عائلة رسمية، لا تعترف بلغة المناكفات الإعلامية، ليست من الأساس إلا مادة منتهكة، موقف هاري أقوى أمام العالم، أمام الجموع، بل حتى قدرته على إعادة صياغة التاريخ الحقيقي تصبح كل يوم أقوى.


ثمَّة شيء غير مقنع أبدا، وهذا الزخم الذي بدأ يُصنع، والنسخة الهشَّة التي صنعت من ميجان ضحيةً (مشروطة) بمن؟ برواية هاري فقط، لقد وضعت حياتَها ورهنتها في سردية هاري التي يتمسك بها. الوضع ليس كما يبدو مطلقاً.


وهذه الرأسمالية الكلاسيكية، تفعل ما بوسعها لحلب هذا الزخم، هي تمسك الجانب العملي بخبرتها كممثلة تعرف عالم الضوء التجاري، وهو بجوهره الملكي كأمير، ترعرع في القصور، إنه ابن الملك! هذه حقيقة حاضرة في الأذهان أمام الكوكب الأمريكي الذي فقد اتصاله بكل شيء ملكي منذ إعلان الاستقلال.


لعبة سياقات، وسرديات، وصراع إنسان جامح مطلق اللسان واليدين أمام مؤسسة ملكية مليئة بالمحاذير، والمعايير، معقودة اللسان، تتلقى ضربة أندرو، والآن ضربة هاري.


يبدو أن ويليام سيكون هو الحل الملكي الدامغ لإعادة تشكيل خارطة العائلة الملكية البريطانية، يبدو لي أنَّ هذا هو موضوع وقت قبل أن تتساوى الأمور، ويتحول الأمير ابن الملك إلى الأمير أخ الملك، ووقتها نحن أمام حكاية إعلامية دسمة.


أتساءل أحيانا وأقول في نفسي: لو كان هاري إنسانا أعرفه عن قرب، وكان صديقا مثلا، أو صديقا لصديق ألن أتعاطف معه تلقائيا؟ ربما لأنني أشعر بالتماهي والفهم.


عجيب الموضوع أليس كذلك؟ كيف حياة إنسان تصبح مادة خام لكي نجرب فيها لساننا، وعقولنا، وأصابعنا، ويكتب الذي يكتب، ويقول الذي يقول، ويصور الريلات الذي يصور الريلات؟


الذي فعله هاري هو إنه أنسى المتلقي جذور الحكاية، ذكي للغاية، ووجد بغيته في الممثلة الرأسمالية ميغان التي لا تخلو من كونها الدرع السردي الذي يحمي رحلته الكاوية. 

رغم كل شيء، ثمَّة شيء محزن أن يصبح إنسانا مجرد حكاية جامدة، محزن بشكل غريب، وربما بشكل شخصي. 


دعنا نرى أين تذهب هذه الحكاية.