أعبر الوقت كأنني لست به! لا بداية حقيقية يمكنني أن أبدأ بها هذه التدوينة التي تناثرت في رأسي وأنا أقود سيارتي عائداً من اجتماعٍ عمليٍّ مرتبط بشكل وثيق بقراري تجاه مستقبلي في علم النفس. شعور هائل بالراحة لأن ظروف الحياة، والأقدار سمحت باستقبال خريجي علم النفسي خارج مكانهم النمطي العلاجي، ليس فقط لي كشخص سيتخرج في نهاية هذه السنة الدراسية، أو لزملائي الذين سبقوني.
خريج علم نفس في سوق العمل؟ ماذا عساه أن يفعل؟ كانت الأسئلة صعبة قبل أن ينطلق مشروع طموح للغاية به أكثر من ستين مؤسسة في عمان، حكوميةً وخاصة باعتماد اختبار توماس السيكومتري على عدد هائل من الموظفين.
خبر آخر، مهم للغاية يمر مرور الكرام على الساحة الرقمية، والساحة الإعلامية، ولأوَّل مرة أعذر الجميع. غربة علم النفس ليست سهلةً، والتصورات النمطية عنها تجعل المهمة أصعب. ومن الأساس كلمة (سيكومترية) بما فيها من جانب رياضي حسابي مرتبط بعلم النفس تحتاج إلى توضيح للمفهوم لكي لا يعاني هذا المشروع من التحيزات الموجودة مسبقا، وبالتالي يفقد دقته الإحصائية، وفوائده نتيجة عدم فهم دوره للفرد، أو للمؤسسة.
غربة أخرى لكنها قطعا ستكون أقل عن غربة الجانب العلاجي الذي فقد شاءت الصدف أن يفتح الباب لخريجي علم النفس بعد اعتماد الاختبارات السيكومترية كأداة قياس. نقلة تسحب مستقبل كثيرين، وتوظيف كثيرين، وترقيات كثيرين من التقييم الشخصي الذي قطعا لن يخلو من التحيز ويضعها بيد نموذج علمي يعامل الجميع سواسية.
عندما حصلت على رخصة اختبار توماس الدولية لتقييم السمات الشخصية قبل عامين، كانت هي خطتي البديلة. لم أكن أعرف أن الحياة ستجعلها خطتي الأولى الرئيسية، والوحيدة المتاحة لي حسب علمي في عمان!
مجال عدد المتخصصين فيه قليل، وقيمة مضافة أن تكون خريج علم نفس ومرخص لتقديم هذا الامتحان، لا داعي أن تكون خريج علم نفس لتأخذ الرخصة، أن تكون كذلك فائدة أخرى جميلة تمكنك من فعل أشياء إضافية في سوق العمل.
للأمر جوانب كثيرة تحتاج إلى تفرغ حقيقي للكتابة، وأيضا لساعات من العمل البحثي. الجانب الذي أنا متقين منه الآن، هو أهمية توضيح هذا الاختبار من حيث نتائجه. لا يوجد فيه مستويات، ولا توجد نتيجة أفضل من نتيجة. أفضل ما يفعله المرء هو أن يجيب عليه بصدق تام لأن صدقه في الامتحان ينعكس لاحقا على راحته في محيط عمله.
المنتجات التي أفرزها حقل الإدارة بالاستعانة بعلم النفس، أو حق علم النفس بالاستعانة بحقول الإدارية والقيادة وغيرها من الحقول العلمية المتشعبة كثيرة الجذور، كثيرة الأغصان، كثيرة الأوراق والثمار تعتمد على حجم الوقت والجهد والتكلفة التي يوضع للحصول على النتائج. ميزة اختبار توماس هو سهولة الوصول له من العموم الكبير، وفوائده مع الفرد والمؤسسة عندما يستخدم الاستخدام الصحيح، والأهم يُفهم الفهم الصحيح.
يجب أن يفهم رب العمل الاستخدام الأمثل لنتائج الاختبار. ويجب أن يفهم الموظف الاستخدام الأمثل، وأيضا الباحث عن عمل. والأدوات التي تمكّن ذلك متوفرة، ليس الجانب التقني هو التحدي الحقيقي، الجانب المرتبط بثقافة العمل وإحباطاته. شيوع الشخصنة، والتحيز، وتسلط (العقلية القديمة) التي تفضل وضع شؤون التقييم بيدها، التي تتعامل مع البيئة الإدارية وكأنها معركة نفوذ لا حالة إنتاجية عامة في مؤسسة تريد النجاح! نجاح الجميع طبعا!
علم النفس هذا الذي ولد غريبا، ويعيش غريبا يحمل إجابات كثيرة على أسئلة نوعية. ثمَّة إجابات كميّة، حسابية، تأتي على هيئة أرقام ورسوم بيانية، وهذه منها تولد الأنظمة الحاسوبية التي تعطي نتائج تنطبق على الواقع، ومنها يحدث الأثر، ويعطي قيمةً، ويحدث التغيير، وهذا حسنٌ كان بطيئا أم سريعا، تقليل الاعتماد على التقييم البشري دائما فكرة جيدة فقط ما دام البديل هو بديل علمي، يقف الجميع أمامه سواسيةً.
حاولت أن أشرح لصديق لي اختبار (توماس) ووجدت أن أمامي مهمة صعبة، فهو من الأساس يسأل السؤال الخطأ: كيف أنجح في هذا الاختبار؟ وهل يساعدني على الحصول على وظيفة أفضل؟
كيف أشرح له أن السمات الشخصية ينطبق عليها ما ينطبق على قول الشاعر: "ومهما تكن عند امرئ من خليقة، وإن خالها تخفى عن الناس تعلم"
لا يوجد نجاح، ولا توجد درجة عالية ودرجة قليلة، يوجد فهم للسلوك الذي من الأساس يمكن للآخرين مراقبته، ووصفه بالكلمات، الميزة الكبيرة أن النموذج مصمم بحيث يعطي حساباً متساويا للجميع، وهذا الذي يفتح باباً يوفر الوقت، والجهد، ويقدم إجابات من زاوية أخرى مغايرة عن تلك المبنية على النبش الفعلي في دهاليز الواقع.
ليس الاختبار هو الهدف، النظام الذي يأتي مع الاختبار هو الذي يحقق الفائدة. التعامل معه بفهم لأثره عليك كموظف، وللقرارات التي تتخذ من قائد. وطفقت أشرح لصديقي أهمية أن يتعامل مع هذا الاختبار كفرصة لكي يعطي كلماتٍ ومقاييس لسلوكه، لا أريد أن أقول (ليفهم نفسه) لأنها كلمة كبيرة ومطاطية كنت أحب استخدامها في سنواتٍ سابقة، لكن بعد دخولي هذا التخصص، تراجعت وخفتت وأصبحت أجد صعوبة كبيرة في استخدامها.
يا إلهي كم الموضوع كبير وضخم! يا إلهي كم الموضوع متشعب ومعقد، ويا إلهي كم تحتاج الكتابة فيه إلى ساعات وساعات لن يسمح بها ظرف عقلي المرهق الممزق حاليا بين التدريب العملي، ومتطلبات سنة التخرج، ووهذه السنة التي سأعيش فيها عقوبةً حقيقية! أنهيت جميع متطلبات مواد علم النفس! وأمامي عام في مواد البزنس! ولكن ماذا يفيد الندم، مرارة العقلم ستمر عليّ، كما استمتعت بفصول سابقةٍ، أدفع ثمنها الآن! سنة بلا مواد علم نفس! فعلا الأمور ستكون ترلَّلَلِي!
الأمر الآن عملي بحت. أحجز لنفسي موعدا لأقدم اختبار توماس، أعيد تمتين معرفتي في هذا الجانب كمجال عمل وليس فقط كمعارف لطالب يدرس، التعرف على منتجات جديدة في التقييم السيكومتري، وتوسعة هذه المعارف مع الوقت والحياة. يبدو أن التدريب العملي قد فتح عقلي على مصراعيه على هموم المهنة بشكل أبكر مما توقعت!
أغلقت عقلي لثلاث سنوات كاملة عن التفكير فيما أفعله بعد التخرج بشهادة علم النفس! والآن هذا التوجه الجديد غير خارطة الأمل، ليس لي فقط، لكل خريج علم نفس.
وجود أخصائي نفسي في كل جهة يتولى هذه الجوانب المرتبطة بالموارد البشرية سيصنع تغييرا حقيقياً. ولن يخلو عمله من تمكين هذه المدرسة التي طبقها العالم أجمع واستفاد منها. ونعم سيلطمه السؤال الدائم: يعالج الموظفين نفسيا! يا ساتر! لن تتعب الحياة من هذه اللطمة! لقد أصبحت جزءا يوميا من حياة النفسانيين!
وجود نتائج لاختبار توماس في فريق كفيل بكشف أشياء كثيرة عنه. ووجود هذه النتائج قبل تأسيس الفريق نافذة لاستباق وحل مشكلات قبل أن تحدث. هذه المحاور السلوكية الأربع (الحزم - التأثير - الثبات - الالتزام) ستغير استراتيجية إنشاء الفريق من الأساس، استخدام النتائج مع التقنيات الحديثة وحده شيء يستحق الاحتفاء به! بعيدا عن الكثير من (الجدعنة) التي تروق لبعض صناع القرار والنتيجة بيئة عمل خانقة أو غير منتجة!
أكتب جملة، وأتأخر عن كتابتها، أحاول ألا أستعجل الحماس الهائل وأن أركز على النقطة الأهم، على إجابة سؤال صديقي الذي سألني ذلك السؤال: كيف أحقق درجة عالية في اختبار توماس!
هذا ليس اختبار ذكاء، وليس اختباراً يمكن مقارنة النتائج فيه بنظام الأعلى والأفضل والأدنى، هذه فرصة لك لكي تعرف موضعك، وفرصة لكي تختبر نفسك من الأساس. وليس هذا الاختبار فقط، اختبارات الخصال الشخصية (الترجمة حالياً مرتجلة سأشتغل على موضوع تعريب المصطلحات في وقت لاحق). واختبارات كثيرة متيسرة في الإنترنت، تجعلك تعرف أحيانا لماذا تضغط على نفسك في شيء ليس من طبيعتك من الأساس.
ألف كلمة تقريباً، والموضوع لم يبدأ بعد. تراودني النفس على أن أجعل كتابتي عن تقييم السمات الشخصية مرتبطا بسيناريو نظري يمكن تطبيقه على الواقع. هذا الشرح مرهق لي، وأيضا ثمة قناة وصل معيّنة في اللغة والكتابة أحتاج لاكتشافها. قطعت شوطا جيدا في هذا النص التأملي وبدأت أكتشف همومي وأراها أمامي مكتوبة. خطوة جيدة للغاية.
بدأ المشوار الحقيقي، أبكر بعامٍ عن ما كنت أخطط له. حسمت موضوع التدريب العملي، وحسمت موضوع خطة سنة التخرج، وحسمت موضوع الخلاص من الجانب العلاجي، وجاء العالم بهذه الصدفة الجميلة جدا، ستون جهة ستعتمد اختبارا أفرزه حقل علم النفس، وعملت عليه حقول علمية عديدة، والعمل فيه هائل للغاية صعب أن يحاط به في مجلد كامل.
مئات الاستخدامات أصبحت ممكنة. لا أشعر بالحماسة، ولا بالإحباط، ثمة شيء في هذا الحقل يجعلك دائما مقاوما للسوداوية، وإلا فما مهمتك الحقيقية إن كان وجود المشكلة في حد ذاتها سببا لإحباطك، مهمتك أن تجد الحلول، وهناك يجب أن يذهب ذهنك.
حسنا، يبدو أن همومي المهنية المؤجلة كثيرة. سأراجع هذه النصوص لاحقا، متيقن أنني سأختلف مع نفسي في جزئيات كثيرة مع الوقت والتجربة، هذا ما أكتبه وأقوله الآن كطالب على وشك التخرج، كيف ستغير التجربة عقلي!!!
للسطور بقية!