بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 16 أغسطس 2019

عن الحياة في الغربة

من التغييرات التي تسببها الهجرة، وأظن إنها تنطبق على الجميع غياب شعورك بثمن الكلمات. المفروض أن الكلمة حق الجميع، أكثر من مائة دولة في العالم تعامل الكلمات ككلمات، والرأي كرأي، عمان لسوء الحظ ليست من هذه الدول.
كسر الخطوط الحمراء واصطياد المألوف بالمنطقي كانت أساسيات الخطاب الذي أنطلق منه في الكتابة، مع هذا يأتي تلقائيا وضعك كشخص مهدد، وهذا يأتي معه مزيج معقد من الأحداث والمشاعر، وتكتبُ أكثر في هذه الدائرة، لا نهاية لها. تغضب، تثأر لذاتك، يتبلور في وجدانك [إيجو] عنجهيّ دفاعيّ يشبه الملاكم الذي تخلف خصمه عن النزال. في تلك الحالة من الجاهزية الذهنية والقلق العارم قد تسرقك وتخطفك لحظة الكتابة، من حياة الناس والبشر إلى حياة أخرى، تشبه رصف اللبنات، لا تتوقف، تعمل فيها الذاكرة والعقل في مدارات داخلية وأكوان وكواكب شخصية لتجد نفسك تكتب، كيف أشرح ذلك، أظن أن شرحه مستحيل، لا كلمات يمكنها أن تصف ذلك السديم الشاسع في نفوسنا مهما حاولنا. ربما الصراخ ينفع!

بقيت لفترة أشعرُ بالخجلِ من هذا الواقع الجديد. الكتابة من بعيد لم تكن يوما ضربا من ضروب الشجاعة. لم أكن من الذين صمتوا في عمان، شناعاتي الكبرى حدثت هناك بأسوأ ما يمكن للكتابة أن تفعل، أتكلم عن مدة مكوثي هنا، في برمنجهام.
لم أشعر بغربة أشدّ من غربة عمان في أي مكان في العالم، لكنني شعرت بالغربة عندما لم أعد أجد كلماتي. دافعٌ كبير للكتابة اختفى فجأة، لم تعد بطولةً تعاش، ولا موقفاً وجوديا، وأن تكتب وأنت في عمان وحتى وإن كسرت خطا أحمر، ثمة بصيرة ما تهديك للصواب، سأنسب هذه الظاهرة لعمان وأتناسى عوامل أخرى في الكون لبعض الوقت، على الأقل حتى نهاية هذا المنشور.

تجاوزتُ شعوري بالخجل، الخجل من الهرب، واللواذ بعيدا إلى حالة الكتابة الشعواء، كنت أسوأ بكثير من سعيد جداد، وأسوأ ربما من كثيرين سوف يدونون بعدي. كان في عقلي درس مناعة واسع شامل جسيم كبير نهائي واضح وحتمي أؤكد به أن عمان لن تنهدم بالكلمات، وفي شتاءٍ من الأشتية التعيسة هنا كسرتُ كل هذا دفعة واحدة، اتخذت حججي الدفاعية الشرسة التي أدافع بها عن نبل هذه الكتابة الرديئة، كتابة الصعاليك، لغة الهائمين بحثا عن أرحب حيّز للغة. لم أحرض أحدا، لا أنتمي لأي شيء، لا أعتبر ما أفعله شيئا خطأ، أو مجنونا، أو مريضا، وإن كانت بعض الشتائم في بعض الأسابيع تزعج الناس فربما عليك أن تحذفني من حسابك، كذلك عن الذي أكتبه عن الدولة، أو عن أحداثٍ عشتها، أنت معني بالعودة إلى الواقع لتتأكد عن الذي أقوله وأكتبه، دفعةً واحدة، على كل الجبهات، تويتر، الفيس بوك، اليوتيوب، الفيديو، الصوت، الصورة، مثل المجنون انسقت وراء حالة تعبيرية محض، دائمة ويومية ظننت أنني لن أخرج منها، قلتُ فوق ما أحتمل قولَه، وجربت كل هذه الوسائل التي ارتبطت في ذهني في عمان بالسجون، تويتر يذهب بك للسجن، والفيس بوك يفعل ذلك، واليوتيوب يفعل ذلك، بل ويذهب بك في السجن في دول أخرى! كانت صدمة واقعية مش بطالة لواحد يظن الحياة دفتر أبيض.

صرت أكتب ما أفكر به ولم أعد أعبأ بأحد، للمرة المليار أقول، لست من دعاة الحقيقة، ولا من كتاب الحلول الذهبية، ليس لدي مقاربات حادة تصلح أي شيء، كل حلمي في الحياة أن أعيش حياة بسيطة، بعيدا عن السياسة، لا أعيش فيها مضطرا لتلقي اتصال كل عدة أسابيع من جهة أمن الدولة لتولول لي معصرة من معصراتها عن خطر الإمارات على عمان، عشت هذا ودفعت ثمنه وما نادم، ورحت الإمارات، وخرجت من تحت أنوفهم وخرجت من عمان، كل هذا كان فصل كبير تعلمون جميعا تفاصيله فقط لأنني قلت كل شيء.
بالي الآن صافي، لم يعد لدي أي شيء آخر أخفيه، لا عن حياتي في عمان ولا عن حياتي بشكل عام، أعيش عدم الحياة وأحب الدراجات كثيرا، هذا ما عرفته عن نفسي. لا أخطط لقيادة الرأي العام، ولا لصناعة المعجزات، لا توجد معارضة في عمان، والقلة القليلة من الذين هربوا من بطش أجهزة الأمن بعضهم كانوا مع هذه الأجهزة أصلا، وإن غفلت عين العدالة البشرية، العدالة الشعرية لا تخفى عن أي شخص.

الكتابة في الغربة مطلقا ليست شجاعة، ليس فيها أدنى ذرة من المقارنة مع المناضلين بأقلامهم في الداخل العماني، لها طعم وحيد، طعم الوقت، عندما تكمل أفكارك، بدلا من الحالة التي في عمان التي لا تكمل فيها قول نصف ما تريد قوله إلا واتصال القسم الخاص يوقف عليك لحظة كتابة ربما كنت تريد أن تكملها.

أكملت لحظة الكتابة، وبكل صراحة، لم أكتشف أشياء جميلة. لم أكتشف أنني جهبذ يمكنه توحيد الناس أو شيء من هذا القبيل، ولم أكتشف أنني صاحب غد لأكون مديراً على خمسة أشخاص، هذه الفردية هي مُنقذي وهي الملجأ القديم، منذ أن عرفت الحياة.

اكتشفت أنك ستغضب حتى تكتب، ومن ثم ستكتب حتى تغضب .. وهي دائرة لا يمكن كسرها، والتدخل فيها يُنتج عَوجا وخللا هائلين، أقول هذا على صعيد شعريّ بحت. الشعراء ليس مكانهم المناصب السياسية، هذه وجهة نظري على الأقل، وليس مكانها احتدامات الجموع، الشاعر مستشار رائع فنيّا، ينفع في شؤون الناس، والحب العام والوحدة وتجاوز الخصومات لكن أن يتولى شاعر الكتابة في الشؤون العامّة، هذه محض خسارة للشعر أولا وأخيرا ومن ثم خسارة للشاعر نفسه.

وماذا الآن؟ العودة للنقطة أ. كما كنت في التاسعة عشرة من العمر، وحيدا في مدينة غريبة على وشك أن ينقرض في أي جامعة تكون في الكون. أعامل الحياة مثل حُكم السجن، وأعيشه مضطرا، الانتحار خيار جبان، والحياة ليست جميلة بكل معاني الكلمة. أتهجل بالأيام وأقول ماذا خسرتُ من يومٍ تقرأ فيه وتكتب وتسمع القليل من فيروز؟ لم تخسر هذا اليوم إن عشتها في بداية حياتك أو نهايتها، أو جميع حياتك، لكن هذا خيار فكر جيدا قبل اتخاذه. لا عودة بعد أن تقرر هذا القرار.

وهذي الغربة، تقدر تكتب وتكمل كلامك. لكن إنه يكون موضوع شجاعة إنك تكتب وأنت بعيد، قلت هذا الكلام داخل عمان، وأقوله خارج عمان: خارج عمان، الكلمات لها كل القيَم الأدبية، إلا قيمة الشجاعة.

كنت أمقت هذه الحقيقة، وكان يزعجني كل شخص يقول [أنت تراك في بريطانيا] مع الوقت صرت أجد في هذه الحقيقة منطقا جميلا، يجعلني أكمل كلامي. لم تعد ساحة معركة ولا موضوع إثبات وجود ولا حق بقاء، عندما خرجت من عمان، لم أحمل معي غير لوحة مفاتيح، وهذا كل ما أحتاجه في هذه الحياة.


معاوية الرواحي