يا إلهي! أي جحيمٍ هذا! أي قلق يدفعني للاستيقاظ من النوم بعد حزمة من الكوابيس!!! آخر عهدي براحة البال، طريقي من الجبل الأخضر إلى مسقط!! أسمع كاظم الساهر، وأشعرُ بتصالحٍ تامٍّ مع الحياة، أخلد إلى النوم ثمَّ أستيقظ لأجد كل القلق الذي لم يذهب معي للجبل الأخضر ينتظرني هُنا في مسقط! أي جحيم هذا!
مختلط ما أشعرُ به! بقايا الهدوء الذي ضخَّه هواء الجبل الأخضر البارد، وقلق اللحظة، وهذه الرطوبة الخانقة وأنا أكتب في صالةِ المنزل، بلا مكيف، وكأنني أعاقب نفسي، أستفزُ الحروف لأخرجَ منها بفتحٍ جديد من فتوح البصيرة الخارجة عن الذهن، تلك الفتوح التي تأتي من اللاوعي لتضع النقاط على الحروف، لتخبرني شيئا جديدا لم أكن أعرف ماهيته! أعاقب نفسي بهذه الرطوبة، وأرفض فتح المكيف! من أجل هذا النص الذي لا أعرف إلى أين سيذهب!
مواقفُ عديدة أمرُّ بها، من لحظة مقهى [كافا، كوفي] والترحاب الذي نلتَه من ثلاثةٍ لطفاء، إلى موقف آخر في محطةِ تعبئة الوقود! عائد بكل فتوح البصيرة من الجبل الأخضر لأجد حياتي تنتظرني، ويبدأ السؤال الحارق! هل أنا حقا إنسان مشهور؟ هل هذا هو تعريفي في حياتي الجديدة؟ أم ماذا بالضبط. هذه ليست شهرة! هذه محبَّة، هذه هبة من الله، واختبار، هذا تثبيت، هذا وجودٌ ونعمةٌ إن كفرتُها يا ويلي من العقوبة التي تنتظرني! لا يخلو حالي من ذلك الوباء الواقعي، أن يعرفك إنسان لا يعرفك، يعرف من أنت، يعرف إنك ذلك الذي في الواتساب!
ولكن أيضا، هذا ليس المشهد كاملا، هنالك قلةٌ يعرفون، يقرؤون، يعلمون تراتب حياتي بأكمله! نعم! هذه ليست شهرة! هذه محبة! ثمَّة شيء خالص ونقي في كل هذا، شيء لا أظن أنني أستطيع فهمه، أم أستطيع فهمه الآن في هذه الصالة الخالية من التكييف! وهذه العقوبة المؤقتة التي أتحدث فيها مع رطوبة مسقط، ولو من وراء جدار!
تعود لي أيام حياتي السابقة، حياتي في العشرين! وأبدأ أرى الفارق بين الحالين! لقد كنت معروفا، لكنني لم أكن محبوباً، أستطيع أن أقولها بكافة أشكال التصالح مع الواقع والحقيقة، كنت مكروهاً، عشريني، أرعن، طويل اللسان، مختال، ملحد، يخالف أي سائد، وإن لم يرتكب الخطايا فسوف يدعي فعلها، مفلسٌ، من طالبٍ في كلية الطب إلى صعلوكٍ يكسب المال من الطباعة والمراجعة اللغوية، إلى معتركٍ آخر أخذ سنوات من حياتِه.
لست بصدد كتابة تلك السيرة، كانت معقدة ومليئة بالتفاصيل والبشر وستأخذ سنوات لأكتبها، الملمح الذي أتوسل لحظة البصيرة هذه لأكتبه هي ذلك الشخص! لقد كان مشهوراً، نعم! لكنه لم يكن محبوبا! لم يكن يعيش المحبة الحقيقية، كان ظاهرة ذهنية، مدونا نشطا، ويكتب حرفيا عشرات الصفحات يوميا! المقال يصل لأربعين صفحة من ثنائية القطب، والهذونة! لماذا كنت أسميها بالهذونة، لماذا كنت أسمي نفسي بالمهذون! ثمَّة شيء ما أردته من كل هذا! يا إلهي! هل حقا اليوم أعرف السر!
كثرة التعرض للكراهية تؤدي للكراهية، كراهية الذات، وكراهية الذات تؤدي لكراهية الآخر، وهكذا دواليك! هذا مختصر ذلك المسخ قيد التكوين الذي ملأ الأرض ضجيجا! هو نظرته الزائغة وطفولتيه البيَّنة، لا يخلو من النقاء، ولا يخلو من الخبث والكراهية. ذلك المندفع الذي يريد أن يغيظ الجميع! حتى طالت اللعبة، وكبرت، ذلك الذي تعامل باستخفاف مع اللغة، ومع تأثيرات الكتابة، وفي النهاية قرصته أنامله بدراماتيكية لا تحدث سوى في الروايات! تخيل أن تعاقبك أصابعك!
يبدو أنني عرفت لماذا كنت أسمي نفسي بالمهذون! أتذكر ذلك الزمان الذي كنت فيه في بدايتي، عشرينيا، أحسد بقوةٍ وبعنف هؤلاء الذين تحققوا في الكتابة، يحركني دافع تنافسي من الغير غير المحمودة، وأجد نفسي في نهاية المطاف كاتباً مقروءاً، كاتبا لا يستطيع أن يعترف أنه ضمن تجليات الظاهرة الاجتماعية، كاتبا كفر بالنخب المعتزلة، وبالاستعلاء العاجي للعقل المفكر، وبالشطحات المجنونة لاستحقاق الفرد المتعالي عن المجتمع، كاتبا، أو مدونا، أو مهذونا وجد في القضية الاجتماعية الملاذ المنقذ الذي يخرجه من فقدان المعنى، إلى معنى جديد!
يبدو لي الآن فقط أنه هذا كان شعاري! [لا تأخذني بجدية] لكنني آخر إنسان تعامل مع الكتابة بغير جدية! سنوات من الكتابة المفرطة، تحت تأثير العقل والجنون، وتأثير الغضب والرضا، وتأثير الافتتان لدرجة التطبيل، والكراهية لدرجة الهجوم على السلطة والدين ودخول السجن، ظاهرة متناقضة، شابٌ لا يعرف نفسه! إنسان ضائع ومشتت أغضب الجميع، ولا يعرف لماذا فعل كل هذا!
نعم، هذا كان شعاري! لا تأخذني بجدية! وظننت أنني سأفلت من عواقب تأثيرات الكتابة على المحيط الكبير، لذلك كنت أسميها بالهذونة!!! أكتب لأنني أريد أن أكتب! وأتلقى ما أتلقاه من روح الوسط الساخطة، المليئة بالاستحقاق! لم أكن أعرف أن نهرا من الحب ينتظرني بعد كل تلك الفيوض من الكلمات، التي لم رغم أخطائها الفادحة من لحظات كثيرة من الصدق، والإبداع، والشعر الصادق، والمقالات الجيدة، والحضور الاجتماعي الذي في موضعه. يبدو أنني ظلمت نفسي كثيرا عندما استجبت للتأطير الذي كلفني إياه الندم، والشعور بالرغبة في الاندماج الاجتماعي مجدداً، يبدو لي أنني اليوم أتجاوز وأشفى من الامتثال الاجتماعي القهري، وأعود إلى استقلاليتي المسالمة، مسخا كامنا جاهزا للدفاع عن نفسه، وشاب تشوه بما يكفي لكي يصبح قاسيا، وأحبَّ بما يكفي لكي يحاول دائما أن يكون خيرا. يبدو لي أنني فهمت هذا اليوم فقط، اليوم فقط يبدو لي أنني فهمته وأراه بوضوح!
الآن فقط أرى كل هذا بوضوح! ويبدو لي أنني فهمت أخيرا ماهية وجودي في هذه البلاد، وفهمت ما الذي أشكله لقليل من الناس فيها، كثيرون يعرفون أنني موجود، واسمي معاوية، ولي حكاية، وقليلون جدا يعرفون هذه الحكاية! هؤلاء، هم الحقيقة، هم حقيقتي، هم وجودي وذاكرتي، أما البقية فهم أرواح نقية، ترى بقلوبها، وقليل منها أرواح مبغضة لا تهمه حقيقة أو أكاذيب، المهم لديه أن يراك محطما، يشتاق إلى ضحيته المجانية المشاعة، ويتمنى لو أسقط مجددا لأكون كما كنت عليه، ذلك المعتل الذي يصرخ ولا يستطيع السيطرة على غضبه أو مزاجه!
يبدو أنني رأيت قسما كبيرا من ذاكرتي، بمنظور موضوعي، فتح آخر من الفتوح، وكتابة ستأخذ وقتها، وربما لها يومها البعيد. لن أنشر هذا المقال في تويتر، سأنشره في مدونتي، وسأراهن على أن إنسانا يقرأ لي سوف يجده، وسوف يضع بعض النقاط على الحروف، وسوف يهديني خلاصة كانت مفقودة عني. يبدو لي، أنني خرجت بنص جيد أهداني فهما جديدا، ولغةً تمكنني من مواجهة مأساوية حياتي، وفداحة الأقدار التي وجدت نفسي في معمعة بعضها، أو رميت بنفسي متعمدا في آتون بعضها الآخر!
للكتابة بقية
معاوية