بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 28 يوليو 2024

فتح صغير!

 يا إلهي! أي جحيمٍ هذا! أي قلق يدفعني للاستيقاظ من النوم بعد حزمة من الكوابيس!!! آخر عهدي براحة البال، طريقي من الجبل الأخضر إلى مسقط!! أسمع كاظم الساهر، وأشعرُ بتصالحٍ تامٍّ مع الحياة، أخلد إلى النوم ثمَّ أستيقظ لأجد كل القلق الذي لم يذهب معي للجبل الأخضر ينتظرني هُنا في مسقط! أي جحيم هذا!


مختلط ما أشعرُ به! بقايا الهدوء الذي ضخَّه هواء الجبل الأخضر البارد، وقلق اللحظة، وهذه الرطوبة الخانقة وأنا أكتب في صالةِ المنزل، بلا مكيف، وكأنني أعاقب نفسي، أستفزُ الحروف لأخرجَ منها بفتحٍ جديد من فتوح البصيرة الخارجة عن الذهن، تلك الفتوح التي تأتي من اللاوعي لتضع النقاط على الحروف، لتخبرني شيئا جديدا لم أكن أعرف ماهيته! أعاقب نفسي بهذه الرطوبة، وأرفض فتح المكيف! من أجل هذا النص الذي لا أعرف إلى أين سيذهب!

مواقفُ عديدة أمرُّ بها، من لحظة مقهى [كافا، كوفي] والترحاب الذي نلتَه من ثلاثةٍ لطفاء، إلى موقف آخر في محطةِ تعبئة الوقود! عائد بكل فتوح البصيرة من الجبل الأخضر لأجد حياتي تنتظرني، ويبدأ السؤال الحارق! هل أنا حقا إنسان مشهور؟ هل هذا هو تعريفي في حياتي الجديدة؟ أم ماذا بالضبط. هذه ليست شهرة! هذه محبَّة، هذه هبة من الله، واختبار، هذا تثبيت، هذا وجودٌ ونعمةٌ إن كفرتُها يا ويلي من العقوبة التي تنتظرني! لا يخلو حالي من ذلك الوباء الواقعي، أن يعرفك إنسان لا يعرفك، يعرف من أنت، يعرف إنك ذلك الذي في الواتساب!
ولكن أيضا، هذا ليس المشهد كاملا، هنالك قلةٌ يعرفون، يقرؤون، يعلمون تراتب حياتي بأكمله! نعم! هذه ليست شهرة! هذه محبة! ثمَّة شيء خالص ونقي في كل هذا، شيء لا أظن أنني أستطيع فهمه، أم أستطيع فهمه الآن في هذه الصالة الخالية من التكييف! وهذه العقوبة المؤقتة التي أتحدث فيها مع رطوبة مسقط، ولو من وراء جدار!

تعود لي أيام حياتي السابقة، حياتي في العشرين! وأبدأ أرى الفارق بين الحالين! لقد كنت معروفا، لكنني لم أكن محبوباً، أستطيع أن أقولها بكافة أشكال التصالح مع الواقع والحقيقة، كنت مكروهاً، عشريني، أرعن، طويل اللسان، مختال، ملحد، يخالف أي سائد، وإن لم يرتكب الخطايا فسوف يدعي فعلها، مفلسٌ، من طالبٍ في كلية الطب إلى صعلوكٍ يكسب المال من الطباعة والمراجعة اللغوية، إلى معتركٍ آخر أخذ سنوات من حياتِه.
لست بصدد كتابة تلك السيرة، كانت معقدة ومليئة بالتفاصيل والبشر وستأخذ سنوات لأكتبها، الملمح الذي أتوسل لحظة البصيرة هذه لأكتبه هي ذلك الشخص! لقد كان مشهوراً، نعم! لكنه لم يكن محبوبا! لم يكن يعيش المحبة الحقيقية، كان ظاهرة ذهنية، مدونا نشطا، ويكتب حرفيا عشرات الصفحات يوميا! المقال يصل لأربعين صفحة من ثنائية القطب، والهذونة! لماذا كنت أسميها بالهذونة، لماذا كنت أسمي نفسي بالمهذون! ثمَّة شيء ما أردته من كل هذا! يا إلهي! هل حقا اليوم أعرف السر!

كثرة التعرض للكراهية تؤدي للكراهية، كراهية الذات، وكراهية الذات تؤدي لكراهية الآخر، وهكذا دواليك! هذا مختصر ذلك المسخ قيد التكوين الذي ملأ الأرض ضجيجا! هو نظرته الزائغة وطفولتيه البيَّنة، لا يخلو من النقاء، ولا يخلو من الخبث والكراهية. ذلك المندفع الذي يريد أن يغيظ الجميع! حتى طالت اللعبة، وكبرت، ذلك الذي تعامل باستخفاف مع اللغة، ومع تأثيرات الكتابة، وفي النهاية قرصته أنامله بدراماتيكية لا تحدث سوى في الروايات! تخيل أن تعاقبك أصابعك!
يبدو أنني عرفت لماذا كنت أسمي نفسي بالمهذون! أتذكر ذلك الزمان الذي كنت فيه في بدايتي، عشرينيا، أحسد بقوةٍ وبعنف هؤلاء الذين تحققوا في الكتابة، يحركني دافع تنافسي من الغير غير المحمودة، وأجد نفسي في نهاية المطاف كاتباً مقروءاً، كاتبا لا يستطيع أن يعترف أنه ضمن تجليات الظاهرة الاجتماعية، كاتبا كفر بالنخب المعتزلة، وبالاستعلاء العاجي للعقل المفكر، وبالشطحات المجنونة لاستحقاق الفرد المتعالي عن المجتمع، كاتبا، أو مدونا، أو مهذونا وجد في القضية الاجتماعية الملاذ المنقذ الذي يخرجه من فقدان المعنى، إلى معنى جديد!
يبدو لي الآن فقط أنه هذا كان شعاري! [لا تأخذني بجدية] لكنني آخر إنسان تعامل مع الكتابة بغير جدية! سنوات من الكتابة المفرطة، تحت تأثير العقل والجنون، وتأثير الغضب والرضا، وتأثير الافتتان لدرجة التطبيل، والكراهية لدرجة الهجوم على السلطة والدين ودخول السجن، ظاهرة متناقضة، شابٌ لا يعرف نفسه! إنسان ضائع ومشتت أغضب الجميع، ولا يعرف لماذا فعل كل هذا!

نعم، هذا كان شعاري! لا تأخذني بجدية! وظننت أنني سأفلت من عواقب تأثيرات الكتابة على المحيط الكبير، لذلك كنت أسميها بالهذونة!!! أكتب لأنني أريد أن أكتب! وأتلقى ما أتلقاه من روح الوسط الساخطة، المليئة بالاستحقاق! لم أكن أعرف أن نهرا من الحب ينتظرني بعد كل تلك الفيوض من الكلمات، التي لم رغم أخطائها الفادحة من لحظات كثيرة من الصدق، والإبداع، والشعر الصادق، والمقالات الجيدة، والحضور الاجتماعي الذي في موضعه. يبدو أنني ظلمت نفسي كثيرا عندما استجبت للتأطير الذي كلفني إياه الندم، والشعور بالرغبة في الاندماج الاجتماعي مجدداً، يبدو لي أنني اليوم أتجاوز وأشفى من الامتثال الاجتماعي القهري، وأعود إلى استقلاليتي المسالمة، مسخا كامنا جاهزا للدفاع عن نفسه، وشاب تشوه بما يكفي لكي يصبح قاسيا، وأحبَّ بما يكفي لكي يحاول دائما أن يكون خيرا. يبدو لي أنني فهمت هذا اليوم فقط، اليوم فقط يبدو لي أنني فهمته وأراه بوضوح!

الآن فقط أرى كل هذا بوضوح! ويبدو لي أنني فهمت أخيرا ماهية وجودي في هذه البلاد، وفهمت ما الذي أشكله لقليل من الناس فيها، كثيرون يعرفون أنني موجود، واسمي معاوية، ولي حكاية، وقليلون جدا يعرفون هذه الحكاية! هؤلاء، هم الحقيقة، هم حقيقتي، هم وجودي وذاكرتي، أما البقية فهم أرواح نقية، ترى بقلوبها، وقليل منها أرواح مبغضة لا تهمه حقيقة أو أكاذيب، المهم لديه أن يراك محطما، يشتاق إلى ضحيته المجانية المشاعة، ويتمنى لو أسقط مجددا لأكون كما كنت عليه، ذلك المعتل الذي يصرخ ولا يستطيع السيطرة على غضبه أو مزاجه!

يبدو أنني رأيت قسما كبيرا من ذاكرتي، بمنظور موضوعي، فتح آخر من الفتوح، وكتابة ستأخذ وقتها، وربما لها يومها البعيد. لن أنشر هذا المقال في تويتر، سأنشره في مدونتي، وسأراهن على أن إنسانا يقرأ لي سوف يجده، وسوف يضع بعض النقاط على الحروف، وسوف يهديني خلاصة كانت مفقودة عني. يبدو لي، أنني خرجت بنص جيد أهداني فهما جديدا، ولغةً تمكنني من مواجهة مأساوية حياتي، وفداحة الأقدار التي وجدت نفسي في معمعة بعضها، أو رميت بنفسي متعمدا في آتون بعضها الآخر!

للكتابة بقية
معاوية

السبت، 27 يوليو 2024

هذا الليل لمن؟

 هل هو "هذا الليل لي" ليل هلال الحجري، الذي استحوذ عليه؟ أم هو "كل هذا الليل لي" ومحمود درويش الذي يصرخُ في فضاء الناس عن خلوه من البشر، أم هي ليلة أم كلثوم، التي تشير لها وكأنه ليست بها!

أي ليل هذا! صوت عبد الحليم حافظ، عزير يغني، عبد المجيد عبد الله، ثم فيفالدي، ثم مايك بوزنر يحاول إبهار أفيتشي، والذي، وياللمفارقة! مات في عُمان! وكأنه يجب أن يبذر ما تبقى من روحه في حناجر أصدقائه!

ليل الجبل الأخضر، الهادئ، أنيق الظلماء، لطيف الأضواء، لم تكن السماء شحيحة بنجومها، ولم تستنكف المدينة أن تطلق العنان لعشوائية أضوائها، وكأنها تتحدى السماء، تقمع النجوم فلا يبقى منها سوى تلك التي اخترقت الزمن، بعضها مات، وبعضها في طريقه للموت، مليارات الأجرام، والعدم البعيد، وأسئلة الإنسان عن هذا الكون الغامض!

أستطيع بسط أفكاري على فراشٍ وثير، أستلقي عليه غير عابئ بهذه الحشرات التي تتجمع على شاشة حاسبي الآلي. ألفةٌ مع الحياة، مع آلامي، مع أحلامي، مع كل ما هو تعاسة في الماضي، وكل ما هو سعادة في اللحظة، لست آسفا على الماضي، لست خائفا من المستقبل، أنا في اللحظة، أنتمي لها، أسكن فيها، وهذه اللحظة ملك الجبل الأخضر الذي غرس بذورَ الوضوح في حروفي وكلماتي!

أنا أكتب! نعم! أكتب، وحولي الأصدقاء والأغنيات، أكتب غير عابئ بالحشرات، أكتب غير عابئ بكل فصول حياتي، وبكل اللعنات التي شكَّلتني، أكتبُ، وأشعر أنني إنسان! أكتب! ولست خائفا على بطارية لوحة المفاتيح، ولا على هذه الصفحة البيضاء، أنا أكتب! وأشعر بالحياة، وأظنُّ أنني وجدت ورقة بيضاء جديدة، تصنعها السماء والجبال، وهذا الهواء البارد الذي عزَّ عن عشاقه، وبان عن مشتاقه!

أهذه هي حقا روح الخلوة! أهكذا كتب الشعراء وحشتهم وغيابهم؟ ماذا نفعل حقا في تلك المدن التعيسة؟ نتقاتل على مسارات الشوارع، نختنق، آمالنا حجارة تثقل أكتافنا، وأحلامنا جبال تهدم إحساسنا بالحياة، أليست هذه الحياة؟ هذه اللحظة الهاربة من وضوح المدينة، هذا المجهولُ صادق، هذا الظلام ناطق، هذه الضحكات حقيقة، هذا السمرُ!!! صانع الذكريات، مانح اللغة انطلاقها إلى فكرةٍ واضحة، بديهية، مذهلة في بساطتها، بسيطة في إذهالها، ما هذه الروح؟

أتساءَل عن هذه الصخور وما شهدت عليه! ماذا فعل أولئك السحيقون في تراب الأرض في هذا المكان! هل مرَّ عاشقٌ حزينٌ وبكى حبيبته البعيدة؟ أم هربت من أغلال العالم حبيبةٌ يائسة تحولت دموعها إلى أشجارٍ تشهد على بؤس الزمان، وحزن الإنسان! هل تشهد هذه الصخور عليَّ، ما يشهد هذا الجبل على مرورنا البشري القصير؟

بم سأفكر عندما أعود إلى لحظتي! وإلى هذه الخلوة! هل سأنجذب مجددا إلى نداء الكتابة؟ أم أكتفي، وأنهالُ على المكان كما انهالت تضاريسه على مشاعري وأفكاري! هذه النجوم، والموسيقى، والأصدقاء، وشبه الظلام، وشبه الضوء، وهذا التمازج المتناغم، النسمات الباردة، والضحكات المتداخلة مع صوت المتأملين! نقرات لوحة المفاتيح وهي تخترق أستار الصمت بين أغنية وأخرى!

أنا حقا في هذه اللحظة، أصابعي تنطلق وكأنها تكتب خارج إرادتي، أعود إلى ذلك الكاتب الذي اشتقت له كثيرا! ينشقُّ من قلب الصخور غائبٌ من المعنى، غائبا عن الوجود المادي، غارقاً في هذه اللحظة، الأغنية تتغير، نقرات لوحة المفاتيح تتصاعد، الأغنية الجديدة تبدأ، وينطلق الأصدقاء في أسمارهم، اللحظة برعاية السماء، والجبال، والظلام الشاحب، والنجوم المتلألئة. إنه الشفاء الحاسم، والوضوح الصديق، مع الصديق الواضح، حيث لا نار تشتعل في الأرض، ولا جمرة تحترق في الفؤاد.

هُنا، يبدأ الكلام، ويصمت، وتترك اللحظة آثارها على رمل الأرض، وترحل عن الحياة لكنها ستبقى في وجدانك، ساطعة، حقيقية، صنعها الأصدقاء، والمكان، والله الذي يرحم عباده بالمهارب والملاذات حتى عندما ظنوا أنه أحيط بهم! هذا الكوكب المادي خاسر لا محالة! خاسر عندما ترى بقلبك لحظة مثل هذه! تعود منها عارفاً، ولا تحتاج لأكثر من ذلك لتكمل الحياة بصبر، وتقبل تام!

معاوية الرواحي

هدوء يجعلك أنت!!

 ذلك الهدوء، مجددا! هدوء الجبل الأخضر الذي يجعل الأفكار واضحةً. أشعر بهدوء نفسي شامل، هذا الهواء البارد النقي، والأشجار التي قضت بعضها أعماراً تفوق عُمري. أتأمل الشجرة التي بجانبي، وأتخيل! كم أربعيناً من الأعمار قد مرت عليها! لغتي تغيرت، اتجاهها تغير، اهتمامي بالعالم تغير، لماذا؟ لأنني في قلب الطبيعة؟ أم لأنني خارج مكائد المدن، وضيق النفوس الذي أصبح السمة الغالبة عليها!

ما الذي سيحدث لي إن عدت لمسقط؟ كم يوماً سأصبر قبل أن أعود إلى سابق عهدي، قلقاً، أدخل تويتر لأنني متوتر، أكتب لأنني مضغوط نفسيا، أتفاعل مع الناس لأنني أبحث عن جدال. لا أشعر بأهمية كل ذلك الذي كنت أكتبه، وأنشره! ما الذي حدث لي؟ حدثت الطبيعة، حدثت الحياة، بحقيقتها!

نعيش في هذا الكوكب المدني ونحن نصنع المعايير والمقاييس. نرهق أنفسنا بشروط النجاح، نظنُّ أن ما نفعله في غابات الإسمنت هو ما يمثل حقيقتنا. وماذا بعدها؟ بعد أن نرهق الحياة بالغياب، نجمع من حطام المال ما يجعلنا أقرب لحياة طبيعية، الإنسان الذي يملك قاربا ويعيش بجانب شاطئ البحر، مقابل الذي يبني قصرا صيفيا ليخرج في يختِه ثلاث مرات في العام! من الذي يجيد الحياة؟ لا يبدو لي أن المعايير المدنية والأوهام الرأسمالية قد أصابت، المصيب حقاً هو ذلك الذي تمسَّك بالحياة في بقعة جغرافية مثل هذا الجبل، أو ذلك الشاطئ، أو تلك الرمال، هؤلاء حقا أجادوا فنَّ الحياة!

أشعر الآن، فقط في هذه اللحظة، أنني كغيري، غارق في ملاحقة الأوهام الكبيرة! أريد أن أصبح غنيا، أريد أن أؤسس مشروعي التجاري، أريد أن أحقق صفقات وعقودا كبيرة، لأفعل ماذا بالضبط؟ لأفعل ما يمكنني فعله ببضعة آلاف من الريالات! بسيارة متواضعة، بعدة تخييم، بعزلة أملك فيها ثروة الوقت! ليت الحياة تسمح لنا بأن نعيش هذه البساطة دون أن تلاحقنا معايير المدنية المفتعلة! كنا بخير، كنا طبيعيين، ثمَّ اكفهر المشهد النفسي، وتغلغلت أمراض المدنية في عقولنا، والآن! نهرب إلى الطبيعة مرةً مرتين كل شهر! حقا أجرمنا في حق أنفسنا، وتقبلنا مشيئة الطاعون الإسمنتي، وسمحنا له أن يسيطر علينا!

أعيد مراجعة كل الانتماءات الرومانسية التي كنت أعجنها في ذهني. لقد فات أوان أن أصبح إنسانا فطريا، سنواتٌ منذ انفصلت عن منزل الطيني الذي فتحت عيني على الحياة فيه، تلك النخيل، وتلك المجازة التي تقدم أفخم استحمام باردٍ في الكون! يا إلهي، أي حياة جميلة كانت! ثروة الوقت، والماء، والخضرة!!!! وماذا نلاحق الآن في المدنية اللعينة! نلاحق المال لكي نشتري بعض الوقت مع الطبيعة! مأساة حقيقية! مأساة!

عشت سبعة أشهر في النيبال، الجبل الأخضر يذكرني بتلك الحياة التي تمنيت لو لم تتوقف! ليت النيبال كانت تسمح بالإقامة المستمرة، كنت أملك معملا لصناعة الشموع، ولولا قوانين الإقامة والهجرة لما اضطررت حتى للرحيل إلى بلادٍ أخرى، راحلا من الجنة إلى قلب المدنيات الرأسمالية! ومجدداً أشعر بالخسارة، أشعر بالخسارة لأنني لست في مزرعة في سمائل، لست أزرع ما آكله، لست أربي ما آكل لحمه، قليل من الطيور، كثير منها يُباع، وبعضه يؤكل، لماذا لست في هذه الحياة لا أعلم!

من سيدفع أقساط السيارة، ورهن المنزل، وتكاليف فاتورة الهاتف! ولماذا كل هذا مهم من الأساس! لا أعرف، ما أهمية هذا الحطام الذي ندفع أعمارنا في ملاحقته، في هذه اللحظة، حقا لا أعرف! محظوظ الذي عرف حقيقة الحياة مبكراً، محظوظ حقا هذا الذي يرحل إلى المدينة قليلا من الوقت قبل أن يعود إلى كل هذا الحقيقي، والناصع في صفائه، الوجود الفطري بكل ما معه من أرواح متخمة بالكرم والطيبة، والحذر والانتباه، والقلق اليومي المعتق بالعفوية والاتكال على الله! كل هذا الجمال لم يفسده سوى الإسمنت، وشبكات الكهرباء، والهرب الدائم من حقيقة ما يجب أن نعيشه أجمعين!

في هذه اللحظة، والمشاكيك تطلق روائحها العذبة، والأصدقاء يسمرون، والمخيمات الجانبية تطلق الضحكات، كل إنسان طبيعي، خارج فتنة المدن والإسمنت، كُل إنسان يعيش جمال هذه اللحظة، وأنا أيضا، كل ما أحتاجه من حطام الدنيا هو هذا الحاسب الآلي، وذلك الهاتف، ولا أريد شيئا أكثر، أريد البقاء هنا، أنكفئ على الكتابة، لعلي أكتب روايتي الحلم، أو سيرتي الذاتية، لعلي أجد الحرية ذات يوم في قلب هذه الأحجار الشامخة!

في هذه اللحظة، كل شيء طبيعي، كل شيء بخير، وأنا هو أنا، دون ضباب المدنية، وضبخانها الفكري واليومي، وأصوات السيارات، والشتائم التي نطلقها بلا وعي كل كل منافسٍ لنا في تلك الغابة التي صنع الإسمنت مشيئتها الجافة والصارمة!

معاوية الرواحي

الجمعة، 26 يوليو 2024

أنت لا تعجبني. أسكت!!!

 

 

 فكرة الكلام والرقابة على ما يُقال وما يكتب ليست فكرة جديدة. منذ الأزل، والمجتمعات والدول والأديان والمذاهب بل وحتى المؤسسات الصغيرة والكبيرة كلها لديها ضوابط تحدد ماهية المسموح والممنوع من الكلام. قد يحدث ذلك على هيئة نظام يحدد هوية شركة، أو متحدث رسمي باسم منظمة سياسية، أو مواطن في دولة. إطلاق الكلام على مصراعيه كمرتكز فلسفي نظري ليس أكثر من رومانسية مستحيلة في هذا العالم، والنسبية والتناسب في المسموح من الكلام والأفكار والممنوع منها هو ما يميز التجمعات السكانية في هذا العالم لكي نخرجُ ونقول هُنا تتحقق حرية التعبير، وهنا لا تتحقق حرية التعبير، ومنها نشتق مصطلحاتنا التي تصف واقع الحال، هذا قمع، هنا حرية، وهكذا دواليك. لسبب ما ثمَّة قانون يضبط المسموح من الكلام، ولست بصدد تفنيد ذلك من فرط ما كتب فيه الكثير.

 

شهدت ساحات التعبير عن الرأي في عُمان تحسنا هائلا في آخر أربعة أعوام، تغيرت خارطة الكلام واكتسبت شعوراً حقيقيا بالثقة، وضبط قانون الجزاء العُماني، وقانون الجرائم الإلكترونية الوضع العام في الكتابة العمومية بشكل واضح. طمأنينة تجاه التعبير في الرأي صنعت علاقةً من الثقة في التعبير عن الرأي المكفول بنص صريح في النظام الأساسي للدولة. ليت هذا الكلام ينطبق على ما يحدث في الرقابة الإعلامية، ولا على ما يفعله الرقيب الإعلامي في مناطق صلاحياته! وأيضا لست بصدد تفنيد مزاجية، أو تناقض الرقيب الإعلامي، فقد قيل ما قيل في مقارباته، ويكفي أنَّ سقف القانون أعلى بكثير من سقف الرقيب الإعلامي المزاجي، والمتناقض، وفي الوقت نفسه الذي لا يمشي على منطق واضح.

ثمة جدال يتخلق في الساحة العُمانية تجاهَ الساحة الرقمية وتأثيرها في المحيط الإعلامي والثقافي، جدالٌ متعدد الأبعاد. ثمَّة روح من التأجيج، والتأليب على ما يسمى بظاهرة المشاهير، وفي الوقت نفسه ثمَّة روح أخرى مندسة تستهدف المثقفين، وتحدد قائمة مرتجلة للمثقف الجيد، قائمة أخرى لمن يسمى [المثقف السيء] سلوكٌ لا أعرف من الذي يقوده أو يوجهه ولا أعرف إن كان يتخلق تلقائيا ضمن مساحات التعبير العفوية، أم أنَّ أجندةً ما إعلامية أو غير إعلامية تقود هذا التوجه بتقصد تام.

يدور هذا الجدال حول الرأي العام العُماني، وما الذي يحدث في هذا الرأي العام؟ إنه في مجمله الكبير رقمي، يحدث في المؤسسات التعويضية التي أكتسبت أهمية من انجذاب الناس لها نتيجة التقصير المؤسسي في صناعة المنتج الإعلامي  والثقافي الذي يرو ظمأ الجموع الهائلة لمنتج إعلامي يحترم عقل المتلقى، ويحترم صناعة الإعلام الذي ينشر الحقيقة، ويتفاعل مع الناس وهمومها. حكايةٌ ينطبق عليها وصف [المعلوم من عمان بالضرورة] والجدال مشتدُّ ومحتد بين الذين ينادون بتمكين الرقيب الإعلامي لتمتد أطراف مقصِّه الحادة حتى إلى المنصات الرقمية، والطرف الآخر الذي يقول أن المساحات الفردية تبقى فردية، وأن حلول الرقيب عليها يعني بالضرورة عدم تحول أي مشروع فردي إلى مؤسسة لها ضوابط، وبالتالي فإن هذا ما سيصنع عائقا يؤدي إلى بقاء صاحب المنصة الرقمي عالقا في دائرة لا نهاية لها من الإنتاج الشخصي، بلغة أوضح سيتم عرقلته وبالتالي هذه النية التي يزعمها البعض أنه جاء من أجل الضبط النوعي ستتحول إلى نتيجة أخرى معاكسة.

ثمَّة رقيبٌ فكري يتخلَّق في الساحة العُمانية، رقيب ضارٌ بمعنى الكلمة، وهذا ليس مثل الرقيب المؤسسي الذي لديه توجُّه واضح. مختصر هذا الرقيب هو [أنت لا تعجبني .. اسكت!] بهذه البساطة البالغة! وقد أثبتت مجموعة من الأحداث التي أثارت انتباه الرأي العام أن عامل التأثر الشخصي بفلانٍ أو علَّان أصبح من المعطيات التي يبني عليها هذا الرقيب المرتجل حكمه على من الذي يستحق الكلام، ومن الذي لا يستحق الكلام. النتيجة الحتمية لهذا السلوك الضار هو قيام مجموعة غامضة من الأسماء المستعارة بالتنمر على أشخاص يتم انتقاؤهم بين الفينة والأخرى، والمزعج في المسألة هو أن قوانين لها علاقة بالجرائم الإلكترونية تُخالف من قبل هذا القبيل من الأسماء المستعارة التي أصبحت تعيث في الساحة شكلا من أشكال البلطجة والإساءة المعنوية لأصحاب الرأي، علما أن الرأي هذا الذي لا يعجبهم لم يخالف القانون في شيء.

أنت لا تعجبني! فما الذي أفعله لكي تسكت؟ أسلط عليك مجموعة من الأسماء المستعارة التي تتولى الهجوم عليك وإقلاقك في منصاتك الرقمية! وليت الأمر يقف عند الآراء، يتجاوز الأمر هذا إلى السب، والقذف، والإساءة، بل ومخالفة القانون في حق صاحب رأي لا يعلم من أين جاءه هذا الرقيب المرتجل؟ تصرف يوغر الصدور، ولا عجبَ أن الذي يتعرض له يصل به الحال أحيانا إلى ردات فعل غير محمودة، ما النفع الاجتماعي من وراء ذلك؟ لا أحد يعرف! وكأن تمكيناً لهذه البلطجة الرقمية قد أصبح أداةً من الأدوات التي يظنها البعض نافعة للمجتمع بينما الحقيقة أنها إحدى المعضلات التي تقود إلى خسارة عقول جيدة للغاية ودخولها في معمعة خطابات الغضب، والكراهية، والإساءة المتبادلة، لقد رأينا كيف حدث ذلك في بعض الحالات المذهبية، ونرى كيف يحدث هذا الاختلاف بشكل يومي نتيجة التأليب الذي يقوده البعض سواء ضد من يسمون بالمثقفين، أو من يسمون بالمشاهير، أو من يسمون بالمتدينين، بل والمثير للأسف أن بعض الشركات بدأت تستخدم هذه الآلية أيضا للهجوم على منتجات شركات منافسة! وصفة للفوضى، وما أن تتلقف أيدي الأجيال الجديدة هذا الأداة تتحول إلى ثقافة في التعبير عن الرأي، ويحدث ما يحدث، من هجوم ومن تحريض ومن إقلاق، وتنمر، وإلغاء، وشخصنة!

 

إن التحايل على حق التعبير عن الرأي شيء يخل بالاحترام الواجب للقانون. الرأي ما دام قانونيا فلا علاقة لصاحبه إن كان يعجبك أو لا يعجبك. الإخراس بالتنمر، والإسكات بالتأليب، والبلطجة بالأسماء المستعارة سلوكٌ قد يبدو الآن عاديا للغاية، ولكن نهاياته وخيمة، ألم يملأ الرقيب الإعلامي الساحة بالأسئلة بسبب تدخلاته الغريبة، وبسبب اندفاعه الآن إلى الساحة الرقمية! وماذا عساه أن يفعل هذا الرقيب الإعلامي في الساحة الرقمية؟ يكرر ما يفعله في الإعلام المؤسسي، وما يفعله بالإعلام المؤسسي؟ بينما تتنظر العقول قانون الإعلام ليضع النقاط على الحروف ينتظر البعض النتيجة النهائية لهذا الجدال. فكيف سيكون هذا القانون القادم؟ لا أحد يعرف، المعلوم من عمان بالضرورة أن القانون ما دام سيصدر فهو في حكم الأمر الواقع، أما الآن فثمة فرصة لإعادة النظر قبل تمكين رقيب عدواني هدفه الهدم يستخدم الانتقائية، إن ما ينتظره الإنسان من القانون هو أن يضمن حقَّه تجاه أي شكل من أشكال التعسف الرسمي، وكل ثقة أن هذا القانون سيحمل في طيَّاته ما يضمن حقوق الجميع، والمؤكد أنه لن يتناقض مع النظام الأساسي للدولة.

 

شاعت في الساحة المحلية فكرة إخراس الذي لا يعجبك، كما شاعت فكرة البلطجة الرقابية على الرأي المخالف للسائد، ظواهر كلها ستقود في النهاية إلى اختلاف اتجاه الغضب، وإلى عشوائية وبعثرة، واختصار تام إلى فوضى يصنعها الذي يظن أنها يريد منعها. العدالة، والحرية المكفولة في حدود القانون تلزمك أن تتقبل الرأي المخالف حتى من الشخص الذي تكرهه، وكلما كان هذا الشخص بغيضا إلى قلبك، ألزمك الإنصاف والاحترام للقانون أن تعطيه حقَّه، لست مطالبا بأن يروق لك كل إنسان، لكنك مطالب بأن تطبق القانون، وأن تتقبل أن العالم هذا متعدد الآراء، وهذا يشمل الرقيب، ويشمل الكاتب الذي عليه أيضا أن يتقبل أن للكلام حدود، قد يتفق مع هذا الشيء، وقد لا يتفق، لكنه مجددا حكم الأمر الواقع الذي على الرقيب والكاتب [أو المبدع بشكل عام] بما في ذلك الإعلامي، والباحث وغيرها من شؤون التعبير بالكلمة وبالصوت وبالصورة بل وحتى بلغة الإشارة. متى ما انتقل الجدال والاختلاف في الآراء من نظرية أنت لا تعجبني فاسكت، إلى (أنت لا تعجبني، أختلف معك) فهذه أول المؤشرات على تخلق ساحة عامَّة صحية، ساحة تستثمر رأس المال الفكري، وتطوره، ساحة ذات نمو، ساحة تتحول عبر السنوات إلى مشاريع ثقافية، وبحثية، وفكرية، وساحة ليست رهناً لمجموعة صغيرة من الناس تمسك بزمامها، أو رهن مجموعة صغيرة من الأشباح والأسماء المستعارة تنفذ أجندات مذهبية، أو هدَّامة، أو عدائية تجاه المجتمع، أو أحيانا تحمل ما تحمله من نفايات التطورات الجديدة في كوكب الغرب الليبرالي وجنونه المستحدث!

الرقابة المحددة بقانون واضح تحفظ حق الجميع، فكما أنَّه من الخطر أن يمارس الرقيب الانتقائية والمزاجية ليصنع جوقات تلائمه وتمالئه وتوهمه أنه وصل إلى أقصى المنجزات الممكنة في الإعلام والوصول الاجتماعي والإقناع للناس، هو أيضا من الخطر أن تكون مهمة الرقابة شخصية وانتقائية وموجهة من قبل مجموعة من الأشباح تستهدف فردا ما بعينه، أو تبدأ بإثارة الغضب والكراهية ضد السلطة، أو ضد مذهب معين، أو ضد مدرسة فكرية، أو ضد مذهب، أو ضد دين، أو ضد فئة اجتماعية، نعم يجب أن يكون هناك قانون يراقب، ولكن لا يجب أن يكون هناك رقيب يضع تحيزاته موضع القانون، حق الكلام مكفول في حدود القانون للذي يعجبنا، والذي لا يعجبنا، ما دام لم يخالف القانون، فهو آمن لكي يقول أي رأي مهما كان سخيفا، أو ضحلا، بل وحتى لو كانت تافها ومليئا بالسطحية، ليست مهمة القانون أن يؤكد التحيزات الشخصية، مهمته أن يحمي الجميع، وأن يكون عادلا، وعلى الرقيب أن يعي ذلك جيدا لكي ينتمي إلى هذا العصر الذي نعيش فيه أجمعين.

 

معاوية الرواحي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الخميس، 25 يوليو 2024

شيكا بيكا!

 صحوت في مزاج جيد حقا! لعن الله إسرائيل! كنت في مزاج جيد بمعنى الكلمة، بالي مشغول بالشؤون التي تخص مهنتي الرقمية، ولا أعرف أي غباء أصابني لأقتل الوقت بالاستماع إلى خطاب المأفون نتنياهو وهو يوجه خطبة إلى كلابه الوفية في الكونجرس الأمريكي! يا إلهي! أي شعور بالتقزز شعرت به. أردت قتل الوقت، فقتلت مزاجي ليوم كامل!


من أين تبدأ في تناول هذا الخطاب؟ من الميجالومينيا؟ ذلك الصنم، الخشبي؟ الخطيب شبه الميِّت، المتخشِّب، بصوتٍ خالٍ من الحماسة! حتى تلك الجمل التي يحاول أن يؤديها ليعزز معاها خرجت خاوية، كأنها نكتة الرئيس التنفيذي البغيض أمام جميع الموظفين الذين عذَّب حياتهم، وكلاب الكونجرس الوفية تصفق بحماسة!

قائد مجزرة العصر الحديث يتباهى ببطولات، ويسرد الأكاذيب، إن كانت حماس إرهابية، فهو إرهابي، وإن كانت حماس قاتلة، فهو قاتل، وإن كانت حماس تخالف القانون الدولي، فهو يبول ويتغوط ويبصق على القانون الدولي! أي مشهد قبيح يمكن أن أتجاوزه من ذاكرتي!

يؤسفني أن أعترف أنني نشأت أمريكيا! وترعرعت في شبابي أمريكيا، عقلي أمريكي حتى فسدت أمريكا وأصبحت ما أصبحت عليه اليوم! لست وحدي، حالي مثل كثيرين الذين وجدوا الملاذ والمهرب في هذا الذي يسمى [حلم الحرية الأمريكي] وكان حلماً ممكن التصديق على الأقل، تفسَّخ وتعفَّن مع الوقت حتى بانت كل عوراته، من احتلال العراق إلى هذه اللحظة التي يتراقص فيها كلاب الكونجرس أمام سيد العالم الخفي، بلكنته الصهيونية، وبعينه الموزعة على مزرعة الحيوانات، والخنازير السمينة التي حولت دماء الشعوب المظلومة إلى دولارات.

كان سيد العالم الخفي ينظر إلى ممثلي أقوى دول العالم، ويكذب! يكذب بلا توقف! ويصنع السردية القذرة التي شطرت وعي العالم إلى نصفين، إنها أمريكا!!! تخيَّل، ذلك الكيان الذي نشأ وعينا العشريني متكئا على حقوقيته، وإنسانيته، وسعته، ومداه، وحرياته الدينية، وقانونيته الدولية! متخيِّل أيها الذي ترعرع في ذلك العصر العربي السابق ماذا عساك أن تشعر وأن ترى هذه النهاية المتفسخة لهذا الكيان الذي كان ذات يوم منبرا لحريات العالم!

نعم أعترف، شخصيا، وذهنيا، وفلسفيا، وفكريا، لقد كنت أمريكيا ذات يوم، ربما كنت أمريكيا لما لا يقل عن عشر سنوات من حياتي، كان عقلي أمريكيا، كنت مجنونا كالأمريكان، شاطحا مثلهم، مؤمنا بأن هذه الدولة هي أجمل ما خلقه الله من أجل الحرية! لقد كان موقفا شخصيا للغاية وأنا أرى نتنياهو أمام كلاب الكونجرس! موقفا شخصيا محزنا بمعنى الكلمة!

لعل مشكلتي أنني لم أتأمرك بما يكفي، لقد حاولت! حاولت قدر أستطاعتي أن أتحول إلى أمريكي كامل الذهني، مغسول الدماغ، شيء ما أعاد لي بصيرتي، شيء اسمه العراق، ثم شيء اسمه فلسطين، ومن ثم عندما استلم جورج بوش، وبعده أوباما، تناثر ما تراكم من أمريكيتي إلى شعور غامر بالخيبة! لست الوحيد من ذلك الجيل التعيس الذي يشعر الآن بهذه الخيبة.

أبحث عن لقاء إيلون ماسك، وأتمنى فوز ترامب رغم جنونه، لعله يعيد شيئا من الصواب إلى هذه الأمريكا التي خرجت عن سياق كل شيء، الدولة الشمولية، الكذوب، التي أفسدت العالم بالشقاق والسلاح، دولة الأخ الأكبر الذي يراقب العوائل الآمنة في مدارسها، الدولة التي لا تعبأ أن تسحب أبناءك من يديك لتخصيهم، ولتحولهم إلى ما تشاء من التجارب الطبية، لتضعهم رهنَ ديمقراطية العلم القسري، الذي أصبحت الحقائق فيه تحدد أيضا بمعركة انتخابية، وبأصوات الجاهل والعالم، والفاهم والأحمق! نعم، تخيل!

دولة البحث العلمي أصبحت اليوم تعيد تعريف الذكر والأنثى! البيولوجيا لا تعني أي شيء، فهذا قرار ديمقراطي، قرار ناخب! قرار من يمثل الناخب، قرار رئيس المكتب البيضاوي، قرار ذلك الحاقد الذي اسمه أوباما، وذلك المخرِّف الذي اسمه بايدن! إلى أين سيصل هذا الجنون ببلاد العم سام!

سيد العالم الضمني يقف أمام كلابه النابحة، المصفقة. على أنقاض غزة، سيد دموع الهولكوست يقف أمام الهولوكست الجديد، وكلاب الكونجرس تصفق، وتصفق! ويسرد ما يسرده، لعله سيذهب بأمريكا للجحيم هذا إن لم تفتح أمريكا أبواب الجحيم لهذا الكوكب المضطرب!

لم يعد الأمريكي أمريكيا، ولم تعد أمريكا أمريكا، شاهت الوجوه، وتكشَّفت العورات، وظهرت حقيقة كل شيء، بدائيا، همجيا، يلبس أسمال العلم، يختطف الأطفال من آبائهم، يسجن الأمهات، يعادي المهاجرين، لقد ذهبت أمريكا التي صنعت في وجدان العالم أحلاما كثيرة، بالحرية، بالديمقراطية، بحرية التعبير!

أمريكا معتلة، مصابة بالمرض، مصابة بالخمج البكتيري، تنقسم، تنشطر، لعلها تتجه إلى فرقتها المحتومة، أو ربما تتجه بالعالم إلى نهايته المجنونة.

سيد العالم الضمني
كان يلقي خطبه
أمام كلابه النابحة
كان واثقا
وأنيقا كما يليق بمسخ كذوب
صوته الشاحب
يطرد البوم والغربان
يلفُّ الخيوط
وينسج أحابيل الردى
يبول
فتتوضأ ببوله الخنازير
نبح فصفقوا
وضَّح فصدقوا
وقال:
فأيدوه

اكذب كما تشاء يا سيد العالم الضمني
لقد تلف هذا العالم!
لم يعد الإنسان إنسانا
ولم يعد الأمريكي أمريكيا!

فليحكم الله بأمره الكبير
ولتكن مشيئته في الخاطئين
وليغلب الله جند الشيطان
وليكن الحق
ولتكن العدالة
ولنكن نحن كما نحن
بلا أمريكا
وبلا مزيد من الشياطين
تجعل هذا العالم أقبح مما كان عليه!


وتفووووووووووووووووووووووو