بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 30 أغسطس 2024

مهنةٌ

 


 

أن تؤدي عملك على أكمل وجه، أمام الكاميرة، تسحب من طاقتك، ومن كل خلايا قوتك الوجدانية، من أجل لحظة انطلاقٍ، لكي تبدو مليئا بالحياة! هذا هو مأزق مهنةٍ ترتبطُ برزقك في الحياة، وإلا ما معنى أن تكون محترفاً سوى أن تدسَّ كل خيباتك في حقيبةٍ خفيَّةٍ وتلبس قناع السعادة والنشاط والحيوية بكل إتقان!

أمام الكاميرة أنت شخصٌ آخر، كتلةٌ من الصبر، يحتاجُ الأمرُ إلى عينٍ ذات قرينٍ بصير لتعرفَ من الذي يكون وراءَ تلك الهالة المضيئة. مع كل يوم يمضي، يصبح الأمر صعبا. أصبح من الشاق أن أخفي تعاستي، وخيبتي تجاه الحياة، ليس لأنها تعبر عني كليا، ولكن لأنني حالي حال أي إنسان آخر لا أخلو منها! فكرة إنكار بؤس الحياة من أجل الانطلاق في هذه السعادة المفرطة التي تشيع في الأرجاء أصبحت عبئا كبيراً، وأظنُّ أن هذا ما أعادني صاغراً مطيعا لمقدس الكتابةِ الصافي.

أمام الورقة والقلم لا تحتاج أن تخفي تعاستك، ولا خيبتك، ولا آلامك الوجودية المتراكمة، لست بحاجةٍ إلى الزعم أنَّك تقبل العالم كما هو عليه. أنت في حلٍّ من الارتماء في أحضان اللحظة المشعِّة، فكون أنت كما أنت، بكل جروحك وشقائك، بكل تعبك، تتقبل موت بعض أحلامك، وفوات جزء من عمرك، وضياع الكثير من تعبك، وفلات بعض آمالك من يديك، تتقبل إنسانيتك، ووجودك الحقيقي، وتذعن للمنطق الذي يحكم قبضته على أيام عُمرك.

أنخلعُ كُل يوم من عالمي البصري، ألوذُ بحرم الكتابة الطاهر منهمرا على حقيقتي، منسكباً على جوهري المهشم، مهشما تلك الموضوعية المعبَّأة باللحظات البرَّاقة إلى هذا المضمون الكئيب. هذه حقيقتي، وهذا أنا، ومعي كثيرون يعيشون هذه الحياة بلا سعادة تذكر، وباكتئاب حقيقي، وبشعور عارمٍ بالسخطِ تجاه الحياة. لست تعيساً بما يكفي لأتوقف عن الحياة، ولست سعيدا بما يكفي لأعلن نفسي من عشاقها المتحمسين، إنها الحياة! واجب أؤديه، فقط لأن الانتحار جُبن، ولأنها الخيار الشجاع الذي أستعين عليه بكل ما يتيسر من الحروف والكلمات.



أقتلعُ نفسي من عالم الضوء اقتلاعا، أحكم المنطق الذي أعيش به حياتي، وأؤطر ما سبق من تنازلاتٍ من الوقت والجهد لأعطيها سياقها المناسب. كنت أعلم أنني سأصاب بالسأم يوماً ما، وأنني سأعود إلى هذا الدرب الذي أنفقت فيه عُمرا كاملا. كنت أعلمُ أن هذه اللحظة ستحين، لكنني لم أكن أعلم أنني عشتها لعامين تقريبا، وأنني ذهبت إلى قراري قبل أن أعلم أنني اتخذته.



ألتقي بعالمٍ من عُلماء النفس الكبار، وندخل النقاش الاعتيادي الذي يجوب أرجاء الأذهان في مجتمعنا العتيد. يسألني عن حياة المنصات، وأن يعرفك الناس، وربما أن يحبك كثير منهم. ولأنني أمام عالمٍ حقيقي، أبوح له بحقيقة كل هذا الحطام. حطامي، وهشاشتي، وتعاستي، واضطراري المستمر لتغذية هذا الوحش النهم بالوقت، والمزيد من الوقت، والتركيز، والأيام. يرفع حاجبيه في دهشة لا تخلو من الصدمة: حقا! أتابعك دائما، تبدو سعيداً، ومنشرحا، وتحبُّ الذي تفعله!



نعم! سعيد أحياناً، لكنني منشرحٌ لأنني منضبط مهنيا، أؤدي عملاً، أنفق من قلقي وإرادتي ما يكفي ليجعلني مرهقا وتعيسا. واجبٌ أؤديه ببراعةٍ أحيانا، وبشغف ماتَ منذ خمس سنوات. أن تكون موجودا، ومؤثرا، وصاحب رأي هذا شيء آخر، يختلف عن كونك صاحب منصة رقمية استحوذت على حياتك حتى أصبحتَ غير قادر على الفكاك منها. هذه المرَّة أعرف الفخَّ جيدا، وأمام ربما أقل من خمس سنوات قبل أن أهربَ منه في خلاصٍ جديد، ليس هذه المرَّة. لقد اكتسب ذلك المجنون وعيا جيدا يسمح له أن يعرف متى يتوقف، وكل هذا الانهمار يستحق ورقةً بيضاء. أمَّا الذي يحدث هُناك، فهو يحدث هُناك، لا يختلف عن تلف خلايا الجسد، مهنةٌ أخرى، لقمة عيش، وتعاسةٌ أخفيها، وسعادة أدَّعيها.

 

أنا بخير، ولكنني لست سعيدا. بخير، ولست تعيسا. لقد سئمت من كل شيء. أنسحب بهدوء تامٍّ وأبقي ما للقمة العيش للقمة العيش، وما للكتابة للكتابة. التعاسة ليست مهنتي، ولا السعادة مهنتي، حياتي سلسلة لا نهاية لها من السطور، وآلاف الصفحات، وأحلامٌ كثيرةٌ بأوراق مطبوعة. لم أعد أعبأ بأي شيء، ولا أبالي بحدوث أي شيء، أكوِّن ما يكفي من الشر لأحمي نفسي، وما يكفي من الحياة لأكمل رحلتي الأخيرة قبل الاختفاء القسري، والموت الذي لا أعلم كيف سيأتي، تدريجيا أم مباغتا. أشعر بالتعب الشديد، كل شيء حقيقي عندما تحين لحظة الكتابة، وهذه الحقيقة التي أختارها، وأقبلها، أمَّا كل شيء آخر، وكل زخارف الضوء تلك، فهي مهنة ظريفة، ولطيفة، ولا تخلو من السلوان أمام هذا الانهيار الجسيم للسياق البشري، وهذا العالم الجديد الذي لا أعلم كيف وجدت نفسي فيه! يوماً ما. كل شيء تغير ما عدا خيارات الكتابة، يوما ماً كان خيارا صعبا، واليوم هو أيضا خيار صعب، ما أتعس الذين يكتبون، السعداء منهم لا يطيقون ذهاب الوقت، والتعساء منهم لا يطيقون قضاء تعاستهم بدون حبر. دون هذا الحبر، أكتب لأنني أكتب، يوما ما سأعرف إجابة كل ذلك الطنين الغامض، وهذا الشقاء الذي يجعلني أكتب ما أكتبه الآن. السعادة مهنتي، وأنا أتقنها، لكنني لا أحبها، ولا أنتمي لها. المجد لكل التعساء الذين يجعلون العالم جميلا، عسى أن أكون منهم ذات يوم! لا أقصد التعساء، وإنما الذين يجعلون العالم جميلا!

 

معاوية

30/8/2024