بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 4 أكتوبر 2024

عقل محض يسرد حقائقه!

 لا أظنُّ أنني أستطيع أن أصل إلى لحظةٍ قصوى من الصدق مع النفس والآخر كهذه اللحظة الصافية أمام ذهني، هذه اللحظة التي يعود فيها الماضي بكل كوابيسه لعقلي، وأي ماضٍ هذا؟ ماضٍ سياسي عشته مع دولة، ومع مجتمع، ومع مؤسسة دينية، ومع أشخاص كثير منهم إلا قليل ظُلم مني. والآن لا أتكلم في سياق ندم، أتكلم في سياق توضيح، كلام عقل محض، بدون عاطفةٍ تماما.


مراراً وتكراراً، كنتُ في حالة تأرجحٍ تامٍّ في فهم أبعاد ما حدث من قبل، من منظور الوقائع، والسؤال الداخلي العميق: لماذا؟ وكل تلك التفسيرات، والتأويلات، بل وحتى تفسيرات الحالة النفسية، والتي الآن أراها أسخف ما في المعادلة، أفقد السيطرة على مزاجي، ولا أنام، ولكن ماذا وراء هذا المزاج؟ ثمَّة شيء، عميق للغاية، شيء روحي، شيء لا يخلو من القسوة البالغة، والآن صرت أعرف اسمه الحقيقي: اسمه الشر!

لطالما حاولت بين الفينة والأخرى أن أصدق نفسي، أنني كنت ضحيةً لشخص ما، أو أنني انطلقت في موجات شرسةً من الهجوم على العالم، وعلى أشخاص بعينهم، ولاحقا على الدولة، وحقا كنت لا أعرفُ ما تسمية ذلك، للمرض دور صغير للغاية في كل ما حدث لي، المرض يخرج شيئا ما عن السيطرة، لكنه شيء آخر، شيء اسمه: الشر، ولقد سلكت دربَ الشر، والانتقام، وسلكت درب الكراهية، وكدتُ أن أنهمك فيه لنهاية العُمر. ولكن قدر الله أن يرحمني.

هذا الذي يكتب الآن شخص تدمر مستقبله يوما ما، شخصٌ وصل إلى أقسى درجات القسوة، لم يرحم والدَه، هذه الحقيقة الخفية عن معاوية، وحتى ما أقوله بين الفترة والأخرى عن تجربتي السياسية، كانت لفترة قصيرة لا تخلو من دور أعتز بها لنهاية العُمر، لكن النية فسدت، ومعها فسد كل شيء، الأسباب الخارجية كلها ليست أكثر من محفزات، أو معززات، لكن روح الشرَّ وصلت، وانتصرت، وانتصرت الكراهية والباقي القادم من ذلك الجانب الروحي المنطلق للكراهية كان على وشك أن يصبح حقيقتي النهائية، لولا رحمة الله، لولا كثير من الجهد من جانبي، لولا الله، لولا القرآن، لولا قصائد أبي مسلم، لولا العودة لجادة الصواب، لولا محاولتي على أن أجعل حياتي مليئة بالأخيار!

لكن هل هذا هو معاوية حقا! أنت لا تعرف القسوة التي في قلبي، وهل تعتقد أنني الآن بعد كل هذه السنوات من النبش في الذات سأكون جحشا وألعب دور الضحية، لم أكن ضحيةً يوما ما، كنت مشروع ظالمٍ خطر، وربما ما هو أشدَّ. هل يعرف الذي يصفني بالطيبة أنني هددت إنسانا يوما ما بإزهاق روحه، وعلنا؟ لا يعرف ذلك، يختار الــ [Wishful thinking] ويبني تحيزات عاطفية جميلة ومتوهمة ورومانسية عن إنسان يعرف هو نفسه خطورته، وخطورة أن يكون في أي سياقٍ خارج عن السيطرة.

مستقبل تحطَّم، ومعه سمعتي، هل الآن أكون جحشا وأقول حدث ذلك بفعل فاعل! لم أرحم نفسي، تخيل أن تهاجم السلطان قابوس، وماذا؟ وأنت موظف في شؤون البلاط، في مكتب الفريق سلطان! يا سلام، ولاحقا ستلعب دور الضحية لأنك فصلت من عملك! إن لم يتحرك شؤون البلاط لفصلي بعد هذا فهو حقاً شؤون بلاط مقصر في حق سلطان البلاد، هل كنت ضحيةً كلا، لم أكن ضحيةً.

هل تفهم الإنسان الذي تريد أن تطأ ساحته باعتداء؟ ليس إنساناً يخاف الشر، إنسان يتوق للشر، الدولة تعرف ذلك جيدا، تعرف انطلاقي المجنون الخارج عن السيطرة ولم تستطع لجمه إلا بالطريقة القانونية الاعتيادية، الاعتقال والحبس، هل أكون الآن جحشا وألعب دور الضحية، كنت أحاول السيطرة على شرٍّ لا أفهمه، شر لا أعرفه، شر فساد النية، شر الظلم الذي أصاب أبرياء مني، وقليل من الذين هاجمتهم كانوا يستحقون ذلك، أضروا بي، فأضررت بهم، وكان الضرر يتفاقم.
هل تفهم أن إنسانا لم يرحم والده؟ والده الذي بكل غفران العالم سعى له بكل صبر ليعود إلى بلاده بعد أن حطم كل شيء، وحطم فرصه، وحطم احترام الناس له، وحطم ثقة الدولة به، وحطم ثقة الناس، ويعيش ندماً يعلم الله كيف سيفهم نفسه بعدها! أمِّي لم تسلم مني، لم يسلم مني أحد، وأنا نفسي لم أسلم من نفسي، إياك أن تستخف بحالة إشكالية مثل حالتي، أنا حقاً إنسان لست طيبا، لا أقول ذلك كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد، أقول ذلك حقاً لأنني خائف، خائف من نفسي، خائف من الشر الذي أستطيع الذهاب فيه بعيدا، خائف من ذلك الانتقامي الذي لا يعبأ بعواقب أفعاله، هذا هو الخوف الذي أخافه فعلا، قادم من داخل روحي.

وتوقف الشر يوما ما، بمقدس النفوس، بصوت قرآن إسماعيل المحاربي، بأصدقاء مثل الذهب، بسالم الحراصي، بعبد الملك الدغيشي، بأمي وهي تدعو لي، بأبناء أختي وهم يحيطون بي، توقف الشر، توقف الهجوم، توقف الابتداء بالشر، توقف كل هذا، لكن هل ذلك الإنسان الكامن مات؟

الإنسان الذي صنعه خسارة مستقبله، وخسارة سمعته، وتحطيمه لذاته، والآن ماذا سأقف وأقول؟ أكون جحشا وأقول لكل من هاجمتهم يوما ما لسبب سياسي: كنت مخدوعا! كلا، كنت كائنا يبحث عن الشر، كائن مستعد لأن يرمي نفسه في أي جحيم، كائن جاهز للموت، كائن يريد نهايةً قبل أن يصبح مسخاً لا توبة له، ولا عودة له، ولا رجعة له. أنا لست شخصا طيبا، أنا وحشٌ مؤذٍ جدا، وأن أنطلق للدفاع عن نفسي، وأن أعود للشر للدفاع عن نفسي، يا إلهي، يدي ترتجف من فرط خوفي من أن أعود للشر ولو كان في حق، أو الجهر بالسوء إلا من ظُلم، هذا هو الإنسان الذي أخافه، نفسي.

أقولها بوضوح، أنا شخص خسر مستقبله، وسمعته، وكثير من عمره، وحياته، لن أعبأ في سبيل الدفاع عن نفسي أن يخسر أي إنسان مستقبله، أو سمعته، ومسلَّح بمهارات تجعلني أفعل ذلك بكل حذر لا يعود على رأسي بالضرر، لست جحشاً لأنفلت هذه المرة في هجومٍ ضارٍ على الدولة، ولست غبيا لأصنع معاركَ من جانبي، ولم أعد جاهلا فلا أفهم لماذا أهاجم سماحة الشيخ، ولم أعد عاقَّا فأهاجم أبي وأكون جحشا وأحمله كل شروري، لقد فهمت، ووعيت، ونموت، لكن قسوتي لم تتغير، وفي الدفاع عن نفسي لا أستطيع أن أصف حجمَ الاستعداد المتراكم للانفلات مجددا إلى عالم الانتقام، أحب الانتقام الذي في موضعه، وأكاد أقول في نفسي: كفاني الله شرَّ انفلاته ولو كان في موضعه، ولو كان دفاعا عن النفس، ولو كان ردا على معتدٍ ظالمٍ.

لقد تعلمت دروسي في هذه الحياة، ودفعت ثمنها، لست ضحيةً لأحد، أنا الذي اختار كل هذه المعمعة، وأنا الذي دخلها بكل غربته عن روحه المضطربة بالنار والانتقام. من ينجح في إيذائي، له أن يحتفل مؤقتا، ولو بعد سنين، ولو بعد دهور، سأؤذيه فيما أذاني، فإن كان إزعاجا، سأزعجه، وإن كان إقلاقا سأقلقه، وإن كان ارتكب جريمة فالقضاء والادعاء، وإن كان تعريضا سأعرض به، قسوة في حدود القانون، قسوة اجتماعية سيديرها شخص عاش كفاية ليحمي نفسه من الخطأ الغبي، ومن الأدوات الخاطئة في الدفاع عن النفس، أقولها بالفم المليان، لست إنسانا طيبا، ومن مستقبلي الذي تهشم ذات يوم، لا أعبأ أن يضيع مستقبلك إن اقتربت مني، أو من عائلتي، أو من حقوقي القانونية، أو من اعتباري الاجتماعي، أو من أي شيء أستمده من حقوق الدين، والقانون، والشرع، والواقع الجديد الذي أعيشه.

فليستغرب من يستغرب من ردات فعلي، هو لا يعلمُ أبعاد الحقيقة، يعلمها قليلون جدا في عُمان، بعضهم يحمل ألما لا يطاق تجاهي، ألما يمنعه حتى من الحديث معي واللقاء بي، وبعضهم يحملُ ضغينةً لن تزول، وخصومة لن تبرد، وقد تقود إلى حربٍ، وقد تقود إلى ما هو أسوأ، موقفي واضح: لن أبدأ بالاعتداء على أحد.

فليهجع من يستفزني، ويظن أن معاوية السابق موجود، هُنا إنسان مسؤول عن عائلة، وقادر على اختيار الأدوات المناسبة للدفاع عن نفسه، ولو خُذل في حقه، سينطلق إلى بُعد آخر، ولو خُذل في حقه مجددا، سيذهب إلى ما هو أبعد، حتى النهاية، إما أن أعيش هذه الحياة الصادقة الخالية من الشر، أو أن يكون الشر هو نهايتي، ونهاية الذي يظنُّ أن العدوان لن يرد.

هذه حياتي، وهي صعبة للغاية، مليئة بأعداء وخصومات على قيد الحياة، مليئة بأخطاء إن تيسر لي أن أعوضها حاولت، وبعضها لا حلَّ له، لا غفران له، لا تعويض له، ضمير سيلاحقني للنهاية، هي أخطائي، أحتفظ بها لنفسي، وأقيم بيني وبين العالم حدوداً واضحة المعالم، وتذكر عزيزي المتلقي: لا أعتدي، لا أعتدي، لا أعتدي.

أنا لست ضحيةً، ولم أكن يوما ما ضحيةً، أنا شخصٌ حقا اكتشف أنَّه مسكون بشرٍّ هائل سوف يحتاج إلى عُمر كامل ليروضه، وأرجوك أيها الخصم العزيز، أتوسل لك، من أجلك إن لم يكن من أجلي، لا تجعل هذا الكائن يعود للشر، لن هذه المرة يعلم أنه لا يعتدي، وأنها يرد العدوان، وهذا الإغراء بالشر المستحق في مكانه يؤذيني، لأنني صرت أعرف كيف أؤذي، ومتى أقف، وصرت أعرف كيف أؤذي وأنا في حلٍّ من الجزاء، كحال اللص الذي إذا قفز عليك منزلك، كحال الذي يحاول الاعتداء عليك، أعلم متى أضرب، وأعلم متى أذهب لما هو أبعد، تعلمت القانون، وحدودي السياسية، والاجتماعية، وسويت كل القضايا العالقة مع كل المؤسسات، وبقيت لي هذه الحياة الاجتماعية، وأقولها بوضوح، لا أعبأ أن يخسر أي إنسان مستقبله، واعتباره، واستقراره، لا أعبأ ولا أرحم، ولا أندم.

هل فهم البعض لماذا أتغاضى عن الشتائم؟ ولماذا أواصل حياتي رغم محاولة البعض إزعاجي بماضي بريطانيا، أو فيديوات "العظمى" وغيرها من التفاهات، هُناك ما هو أشد من ترسبات الشرور، لا أعيش حياةً عادية، كنت يوماً ما سامريَّ عُمان، كنت يوما ما مضغة في لسان المجتمع، كنت يوماً ما شيطانا ملحدا لا أخلاقيا تلقى الكراهية حتى امتلأ بها، لكنني حقاً، حقا، أتوسل لكل إنسان ذي لب، من أجلك، وليس من أجلي، لا تفتح باب الشر، لا تجعله في موضع يجعله حقاً لي، لأنني أعرف كيف أقف، وأيضا أعرف كيف أترك ضررا بليغا لا يشفى، وهذه المرة لأنك بادئ بالعدوان، لن أندم، ولن أضر نفسي، ولن أدين نفسي، وأفعل كل ذلك تحت مظلة قانونٍ لن أخالف ذرةً فيه، الأذى يرد بالأذى، والشر بالشر، والبادئ أظلم.

لا أظن أنني سأعيش لحظةً أصدق من ذلك، ربما سأعيش لحظة فهم، ربما سأعيش لحظة تحليل، لكنني أقول بالفم المليان: لست ضحيةً، لم أكن ضحيةً. كنت طيبا وتعلمت القسوة، وهذا الذي كان طيبا وأصبح قاسيا، زجاج مليء بالجروح.
بروحي ذئاب جريحة، وجروح لا شفاء لها، وحياةٌ أبنيها بعد أن دمرتها بيدي، لدي عائلة أعوضها وأحميها، ولدي مجتمع أتأقلم للحياة معه، وقطعت شوطاً جيدا في ذلك، فلا يظن من يقترب من سلامي أنني لن أعلن حرباً عليه. وما هو حق لي لا أتنازل عنه، وما هو حقٌّ عليَّ أؤديه ولا أنكره.

ولا وضوح أكثر من هذا الوضوح يمكنني أن أكتبه أو أن أقوله. الحمد لله الذي أوصلني لهذه الخلاصة الصافية، والتي أعرف أنها حقيقة لا لبس فيها. أسأل الله أن يملأ قلبي بالمحبة والعطاء، وأن يجنبني الشرور، وطرق الشرور، والمعتدين إنه سميع مجيب الدعاء.

انتهى