بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 3 ديسمبر 2024

تصويب السياق: صناعة الرياضة/ الهواة أولا!!

 

 

إنه لشيء صعب حقا! أن تصف أسباب شغفك بشيء. والأصعب، أن تبرر حماستك. كيفية ذلك -بكل صدق- لا أعرفها، ولكنني سأحاول. وكيف تتعرض لمواضيع متداخلة لا تخلو من التعقيد. دعني أحاول.

 

صناعة الرياضة اشتقاق من أسئلة أكبر في عُمان. ومن أهم أسئلة عُمان حاليا هو سؤال الاقتصاد العُماني، تعميق مركزه وتوسيع أطرافه. هُنا يأخذنا السياق عن الدقم، وعن تعديل أوضاع الشركات الحكومية، ومراجعة أوراق كثيرة متعلقة بالخصخصة، والحوكمة، وغيرها من المصطلحات التي تمرُّ علينا في الجرائد وقليل منا يفهمها فهم اليقين، ومنها المصطلح الأحب للقلوب الصحفية (الاستدامة) والذي كلنا نفهم منه بشكل ما أو بآخر ملمحا من المعنى له علاقة بالديمومة. لأنني لست خبيرا اقتصاديا نصيبي من فهم كل هذا التعقيد هو فهم الطرف المتلقي للبيانات الاقتصادية، فهم الذي يحاول الفهم.

 

كعُماني، أعلمُ علم اليقين أن التحدي الحقيقي في صناعة الوظائف في عُمان هو التحدي الاقتصادي، عدد السكان المتزايد غيّر معادلات التوظيف في بلادٍ كانت يوما من الأيام ترسل السيارات للولايات لكي تدعو الناس لقبول وظيفة. ومنذ السبعينيات والحكومة هي الجاذب الأوَّل للتوظيف، وما رافق عصر التأسيس والنشأة من اضطرارات، وما جاء معه من ظروف غير نمطية، كتوزيع الأعمار، وأعداد المواليد، فضلا عن تغير إحصائيات كثيرة، معدل العمر المتوقع، دخل الفرد، والتناسب بين القوى العاملة الوطنية والقوى العاملة الوافدة، إلى الثمانينيات، وبدء دخول العمالة الوطنية المؤهلة بشهادات جامعية، إلى سنوات التسعينيات، ودخولنا الألفية الجديدة.

 

وضع التأسيس والنشأة يفرض شروطا مختلفة على وضع الاستمرارية (والاستدامة) والآن، يتجه السؤال العُماني الكبير للاقتصاد. صناعة الدخل العام، والاستثمار، والابتكار، والنقطة الأهم (صناعة الوظائف) كلها الآن تأتي من منظومةٍ مختلفةٍ عن النموذج الكلاسيكي العُماني الذي سادَ في سنوات النشأة الحديثة العشرين الأولى. لصناعة وظائف تحتاج لاقتصاد، وللاقتصاد تحتاج إلى شركات نامية ومنتجة، ولوجود شركات نامية ومنتجة تحتاج إلى بيئة ابتكار، وعدالة في السوق، وحرب على الفساد، ومقاومة للاحتكار، ورعاية للبراعم الصغيرة، ودعم للشركات الصغيرة والمتوسطة، وجهاز استثمار ناجح، تحتاج إلى ذلك كله فضلا عن استراتيجيات في التعلم، والصحة، وسياسة هجرة ذكية، وضرائب ديناميكية تُرفع على قطاع وتخفض على قطاع آخر، تحتاج لامتيازات استمثارية، وإلى مراقبة للخطط، وتعديل في التنفيذ، وإلغاء بعض الخطط، و الدفع بأخرى، صتحتاج إلى حركة شاملة تكاملية متكاملة قادرة على الدفع بالنمو إلى وصوله لحالة الزخم، وبعدها إدارة هذا الزخم لضمان عدم خفوته، وكذلك عدم اتجاهه إلى ما لا يناسب المصلحة العُمانية العامة.

 

يا إلهي!! كل هذه مقدمة فقط للبدء في السياق الصغير المُشتق من كل هذه التعقيدات الأولى. صناعة الرياضة ملمحٌ واحدٌ صغيرٌ له أهمية وأولوية قد تختلف عن صناعة البتروكيماويات، وقد تختلف عن ميناء الدقم، لكنها كلها تتفق في الهدف الكبير، صناعة بؤرة اقتصادية نامية، ومن هذا النمو تأتي الحركة والاستمثارات وتحريك رؤوس الأموال، وفي النهاية صناعة سوق، وهنا نصل إلى لب الحدث (صناعة الوظائف).

 

تُصنع الوظائف بذكاء اقتصادي، والابتكار والتجديد والتحديث إحدى ملامح هذا الذكاء الاقتصادي. والاقتصاد الرياضي لا نحتاج لوصف أهميته في ديباجة وكليشيهات مكررة، إنه مهم كأي اقتصاد آخر، ومرتبط بالاحتياجات الشعبية والثقافية. ولهذا تبدأ هذه الإجابات بالحلول على الاحتياجات والفجوات الموجودة في السوق، سوق رياضات الهواة التي تشكل جسرا مبدئيا يرمم تلك الفجوة التي تصنعها قلة عدد السكان، وما يشكل ذلك من تأثير على الرياضة ككل. عدد سكان قليل، عدد تذاكر أقل، مرافق لا تعيد مردودها الاستمثاري في وقت مناسب للمستثمرين وبالتالي نعود إلى الدائرة الأولى: اعتماد كل شيء على الدعم الحكومي.

أتمنى ألا يفهم أحد من كلامي أنني أنادي بإيقاف الدعم عن أي رياضة من الرياضات، ليس هذا ما أقوله، الذي أقوله هو أن الدعم الحكومي من الأساس يهدف إلى صناعة نمو في السوق، لا إلى أن يكون هو السوق كله! أي سوق رياضي سوف ينشأ إن كانت فكرة رأس المال الجامد هي سيدة الموقف الاقتصادي؟ كل شيء سيتحول إلى الجمود، وسيقف، وفي دولة قليلة السكان مترامية الأطراف التحدي أصعب وأصعب!

 

الابتكار، والتجديد والحلول الذكية بداية لتغيير معادلات سابقة ومقاربات كلاسيكية حتى هذه اللحظة يظن البعض بها أنها الإجابة. وما نشهده الآن من بداية وصعود لنجم رياضات الهواة قد يكون مؤشرا جيدا على بداية شيء جميل، ولكن أيضا، علمتنا الحياة أن الأشياء الجميلة تنهار، ولا سيما عندما تُخرج عن سياقها، أو تُعامل كإجابة على سؤال آخر.

 

صناعة الرياضة تحتاج إلى سوقٍ نشطٍ متعدد المتنافسين، إلى عدة شركات توسع نافذة هذا السوق، والكلفة العالية للرياضات الاحترافية يمكنها أن تصنع عشرات المشاريع للهواة، ولا أقول أن يؤخذ من هذا ليعطى لذاك، وإنما أقول أن يبدأ مشروع جديدٌ يرفع من القيمة السوقية لرياضات الهواة، ويصنع اندماجا اجتماعيا بينهما. قد يحلو للبعض أن يتوقع أن المالَ يحل كل شيء، وأنه به فقط ستحدث النجاحات الرياضية، ليس بالمال وحده تُصنع النجاحات، الإدارة الذكية، والمهنية، وتحويل الرياضة إلى مهنة معقولة الدخل، بكل ما يأتي مع ذلك من نشاطات، وفعاليات، وشركات صغيرة ومتوسطة، ومعارض، ومنصات داعمة. والأهم: عدة شركات تغطي الاحتياجات الاجتماعية العُمانية للهواة في عمان من أقصاها إلى أقصاها.

 

المشهد الاحترافي العُماني سياق متصل، وينمو، ويسير في مسارِه، والآن ثمة مشهد يتجلى في بدايته، مشهد أتمنى أن يستمر، كما أتمنى أن تنتبه العقول الاقتصادية إلى نشأة هذا السوق، فارتباطه الوثيق مع المجتمع، ومع نزعته المحبة للرياضة، فضلا عن القيم التربوية، والثقافية، وقيم النجاح والتنافس الشريف، كلها قابلة للتحقيق بتكاليف معقولة للغاية، ومتى ما اتجهت العقول الاقتصادية، وبدأ رواد الأعمال في نقل مشاريع الهواة لديهم إلى مستوى أعلى، يمكننا أن نقول أن نشأة هذا السوق في طريق التوسع، ومع هذا التوسع تأتي صناعة الوظائف، والمهنية، والربح، وضرائب للدولة، ودخل للناس، وفعاليات في المحافظات، وكل ذلك نشاط اقتصادي سيعود بمردود كبير. رياضات الهواة بداية اقتصادية موفقة، وهي تحتاج إلى شركات كثيرة، ورواد أعمال أذكياء، ومغامرين حكماء، والأهم، تحتاج إلى روح تؤمن بهذا المجتمع، وعقل يجيد التعامل معه.

 

لا المشهد الاحترافي يلغي رياضات الهواة، ولا رياضات الهواة تلغي المشهد الاحترافي، التكامل الذي سيحدث بين هذين العالمين المتوازيين سيحدث بعد سنين، عندما يصبح الهاوي محترفا، وعندما يصبح المحترف المعتزل هاويا، كل هذا سيحتاج إلى جهود، وسنين ليحدث، وما دامت الفكرة قد بدأت، عسى أن تستمر، وتثمر، وتربو، وتتحول مع الوقت إلى مشهد اقتصادي نافع للبلاد، وللمجتمع، ولكل أصحاب الأفكار المبتكرة الذين قد يحققون ذلك الحلم القديم، أن تكون (الرياضة) مهنةً ذات مردود كافٍ لبناء مستقبل لاعب مجتهد، ليس اليوم ربما، ليس غدا، ولكن بعد سنين! هل سنقول أن هذا كله بدأ من فكرة بسيطة؟

 

عسى!