بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 30 أغسطس 2025

لحظة جديدة!

 #لحظة_إدراك:


كنت أمشي اليوم على جانبِ شارعٍ من شوارع مسقط! كان يوما عاديا من أيام الوقت! لا شيء مهم، ذهني شاردٌ في التفكير بسنةِ التخرج، وإذا بي أمر بتلك اللحظة العجيبة التي أحدق فيها بدهشة إلى هذه الحياة كما لو كنت شخصاً آخر يسكن في جسدي!
أكمل ستَّ سنواتٍ الآن منذ أن قررت أن أعيش حياةً طبيعيةً. عُمري الحقيقي في هذه الحياة ست سنوات + 18 سنة في طفولةٍ جيدة للغاية في سمائل. سلَّمت سمائل مسقط طالباً متفوقاً، دخل كلية الطب، وعندما أمسكت زمام أمري، لم أكن مطلقا أعرف ما أنا، وما أكون، ولم أعرف لسنوات وسنوات من الأساس ما الذي أريده.

كُل ما أردته في هذه الحياة هو الانكفاء على الكتابة، وظننت أن الحياة يمكنها أن تسمح لي بعيش جنوني بالطول وبالعرض كما أشاء!
الظن الذي ستنسفه الحياة دائما وأبدا في اللحظة التي يخرج فيها الجنون من الإبداع، والفوضى الخالقة للكتابة، والشعر، والمسرح، إلى الفوضى التي أمامك مجتمع شرس يقف ضدها، وقانون، ودولة، وأشخاص.
مفاهيم من الصعب على شاب جامحٍ في العشرين أن يعيها، ولأنَّه أصرَّ أن يتعلمها بالتجربة، عاش حياتَه الغرائبية تلك، بكل أفراحها، ونجاحاتها، وبكل إخفاقاتها، ونكساتها. مع أنني أكتب دائماً ضمن لحظات التجلي هذه، وحالة الإدراك المفاجئة هذه التي تخطر على وجداني، لكنني حقا حتى هذه اللحظة لم أعرف بالضبط دافعا واضحا لكل تلك الفوضى التي اكتنفت حياتي، ولماذا كنت من الأساس مندفعا للإضرار بنفسي بشتى السبل الممكنة.
الذي يعرفني في الواقع يجد إنسانا لطيفا للغاية، خجولا بعض الشيء، لا يخلو من القلق والتردد، ومن النادر أن يقتحم مساحات الآخرين بسوء. غالباً، ما عدا حالات نادرة، عشت ربما حتى عُمر الثامنة والعشرين بهذه الطريقة.
تناقضات غريبة لم أفهمها يوما ما، أحفظ القرآن من جانب، وأصمم برامج لحفظه، وأهيم عشقاً به، لكنني مصر أن ألعب دور الملحد المبتدئ الذي يتمنى الاحتراف في دوري الدرجة الأولى، هل كنت ملحدا؟ لا أظن أنني اقتربت من الأساس من الإلحاد الحقيقي، ولكن؟ طريقة سهلة للغاية لإيذاء نفسك أليس كذلك؟ فلأسلكها! وهكذا فعلت.
عُمان دولة متسامحة بشكل حقيقي، متسامحة مع أشكال كثيرة من الجنون غير الضار، ووجود شخص لا يخلو من غياب واضح للاستقرار العقلي لم يكن ظاهرة غريبة كثيرا في عمان. راهب كتابة، يكتب، يعيش حياة إلكترونية، وعندما تلتقي به في الواقع كان ألطف مما يبدو عليه، وعلى أية حال لطفي كان حقيقيا يوما ما، بعد أن عشت تجربتي لا أستطيع أن أسمي لطفي الآن أكثر من قناع تعايش، واضطرار للحياة لكي لا أتعرض للضرر من أي شخص آخر. عندما تفلت حياتك من يدك، وتصبح مشاعاً، هذا قرارك، وهذا كان قراري، وهذه كانت أخطائي، قررت الوقوع فيها، وقررت إصلاحها. هذه الحقيقة التي أواجه بها نفسي دائما لكي لا أمرض مجددا بشعور الضحية. لم تخل حياتي من الظُلم كأي إنسان، ولكن إن كنت ضحيةً لأي شخص يوما ما، أنا ضحية نفسي، والأضحية التي لم أفهم يوما ما دافعي الجنوني لتحطيمها بكل ضراوة.
أظن أن دافع الانتحار الذي رافقني لسنوات وسنوات كان عاملا عميقا للغاية في قطعي لكل آصرةٍ قد تجعلني أحب الحياة. أظن بشكل كبير للغاية أن ذلك الاكتئاب، والعدمية التي رافقته، والعبثية البوهيمية التي ظننت أنها نمط حياة يمكن أن يستمر قد لعبت أدوارا عميقة في قلبي، وفي الاختيارات الخاطئة التي كان التخلص منها صعبا للغاية، ولا سيما الأشخاص المحوريين الذين علقت مع دائرتهم الاجتماعية السقيمة!

لم أكن أواجه السلطة الدينية، كان يجب أن أواجه سماحته مباشرةً، واكتفى هو بتجاهلي طويلاً بعد أن نُقل إليه حقيقة ما كنت أمرُّ به. أعود للحياة لتناقضي، نزعة إيمانية قوية أتعامل معها كما لو كانت وصمة عارٍ في عقل إنسان يود أن يكون ماديا متجردا تماما من كل ميتافيزقيا الأديان كما كان يحلو لي أن أسميها. لم أكن أواجه السلطة السياسية، كان يجب أن أختار أقوى المؤسسات القادرة على إيذائي حقاً، وبدأ الأمر تدريجيا، ولم أعرف من الأساس دافعاً حقيقيا لي، لماذا كنت أكتب؟ أتحدث عن أرشيف تجاوز عشرة آلاف صفحة! طاقةٌ كنت أرهنها مجانا لمن هبَّ ودبَّ وعذري أمام نفسي: لا أعرف ما الذي أريده! كل ما تمنيته وقتها هو الموت شابّا، وأترك مدونة مليئة بالأسئلة وظننت أن هذا ممكن!

كنت أمرُّ بحالاتٍ من التعقل المؤقت، وأحاول التمسك بحياةٍ اجتماعيةٍ ما، وفي اللحظة التي أختار فيها بين الكتابة وبين الحياة الاجتماعية أعود فوراً إلى نزعتي الهوسية في تحطيم الذات. ونعم، أن تصل إلى حالةٍ من التخلي التام عن الواقع الاجتماعي ستصل إلى أقصى تجلياتٍ يمكنك فيها أن تكتب كل ما يخاف البشر حتى عن التفكير به! ولكن بأي ثمن؟ الثمن هو بقاؤك وحيداً، ترفض كل شيء، ويرفضك كل أحد. حياة بدون تنازلات، هي تنازل عن الحياة، هذه الحقيقة التي خلصت إليها.

لا أعرف كم من الوقت قضيته اليوم وأنا سارح الذهن، أستعيد مئات الأحداث والمواقف والحوارات والنقاشات. وكيف أصبحت حكايتي عامَّةً، وكيف فقدت خيوط وجودي واحدا تلو الآخر. وبعدها بدأت هوايتي في الاصطدام العبثي بالسلطة! طيب لماذا؟ مجددا لا أعرف، ثمَّة أمر غامضٌ لا يمكنني سوى ربطه بإتلاف الذات، لعل هذا يجنبني أن أكمل الحياة الطبيعية، هذه التي يتضح لي أنها أصعب بكثير وأثقل من حياة العبث. حقيقة أخرى من حقائق الحياة تعلمتها، طريق العبث أسهل، ولا يخلو من التنصل من الواجب الثقيل للحياة. لم يكن يوما ما الخيار الأصعب.

وتمضي سنواتٌ، وبدأت محاولاتي للفلات من تلك الدائرة المجنونة، ولكن بعد ماذا؟ بعد أن دخلت عالم الإدمان، والجنون، وصرت شبحاً. كنت بارعا للغاية في تحطيم فرصي للعودة للحياة الطبيعية، وكنت أيضاً بشكل غامض للغاية أحتفظ بحبل النجاة الأكبر الذي تمثل في علاقة قوية مع عائلتي، التي أيضا لم تسلم من محاولاتي لتحطيم الصلة بها، لكنها لم تكن محاولات بارعة في الهدم كم كنت بارعا في هدم أشياء أخرى.

وبدأت الرحلة، خطوة بخطوة، التخلص من الإدمان، الإشراف العلاجي المكثف، التصالح مع العائلة، ومع الوقت إعلان السلام التام على كل الأصعدة. السياسة، ليست أداة ضغط وإنما حالة رأي، الدين حالة شخصية، الثقافة كتابة، وباقي ما تعلّق من الماضي أتركه كما هو لا أقترب منه ولا يقترب مني.
بالغ كثيرون في إثارة الشك (المعقول جدا) في اعتبار أن حياتي الهادئة هذه لن تستمر أكثر من عدة شهور، والبعض كان يقولها علنا: معاوية موضوع وقت فقط!
تمسكت بحياتي الجديدة، واستشعرت قيمة ما تبقى منها، وبدأت أبني إنسانا جديداً. الشكوك تحيط بي من كل مكان، هل حقا ذلك العاصفة الرقمية سوف يهدأ أخيرا؟
والحق يقال، لم يكن كل هذا ممكنا بسهولة. لولا ذلك العفو الحليم الذي صدر بشأني من جلالة السلطان. عشت عامين من الخوف الشديد وأنا أنتظر ضربةً قاصمةً تنسف عمري في عمان. ومن يلام على قلقه تجاهي؟ أنا نفسي كنت خائفا من نفسي! وخائفا للغاية من غموض ندائي الغامض نحو تدمير الذات.

الذي حقا لم أحسب حسابي له هو حجم الآثار النفسية التي سأخرج منها من تجربتي. السجن الانفرادي لمئة يوم! هذا كانَ في حد ذاته انصهارا للذات، ولا كلمة أخرى تصف تلك الأيام التي حتى هذه اللحظة ليست لدي لغة لأصفها. أيام الهجرة! يا إلهي! كانت صدمة صعبة للغاية عندما اكتشفت أن ميدان الكتابة متاح، متاح لأقصى سقوف الكلام، ولكن هل ذلك كان ميداني؟ أم مكاني الحقيقي ككاتب هُنا في عمان. تفقد الأشياء طعمها! وبدلا من الهجرة، عشت في عمان أكثر، ملتصقا بلوحة مفاتيح، كل يومي في عمان، وأخبار عمان، وأنسى نفسي أحيانا وأكتب وكأنني في عمان.

ست سنوات لم تخل من بعض المنغصات، وأيضا لم تخل من بعض المواقف التي أثبتت لي أنني آمن في بلادي، وأنه حقاً من يعتدي أولاً يُردعُ ردعا حقيقيا، لماذا؟ لأنني ببساطة لا أعتدي على أي كائن بشري، أعيش في حالي، وملتزم بحياة اجتماعية بحتة، لا نظرية سياسية لي الآن لأنني من الأساس لم تكن لدي نظرية سياسية، حالة من الاندفاع المطلق والرغبة لجعل الكلام بلا سقف! تنازلٌ من التنازلات التي أقبل بها لأعيش في عمان. يمكنني أن أعيش بدون الاعتداء على الذات الإلهية، ويمكنني أن أعيش بدون جعل مواضيع حساسة للغاية موضوع (أفّيه) كوميدي، ويمكنني أن أعيش بدون اختيار أقوى أجهزة الدولة لأستفزها، ويمكنني أن أعيش بدون أن أنضم لحزبٍ ما، اجتماعي، أو عام. وهنا لا أعتبرها تنازلات، وإنما قرارات واعية تمسكت بها حتى أصبحت الآن هي حياتي.

لست نادما، ولست محتفيا، ولا أشعر بأي شيء تجاه ذلك الماضي إلا كعجينة لمادة خام تساعدني على الفهم. مضى ما مضى، وتغير حال البوهيمي الذي لا يأخذ أي شيء بجدية بما في ذلك نفسه. قطعت شوطاً جيدا، وأنعم الله عليَّ بالهدوء، ووفيت بالعهد الذي قلته يوما ما للشخص الذي وضع ثقته بي.

لست قنبلةً موقوتة، ولست مشروع فوضى ولست أي شيء أكثر من إنسان أشبه ملايين الناس الذين يعيشون حالهم وحال سبيلهم. لست أكثر من رب أسرةٍ، وأبٍ، وإنسان يسعى لبناء حياته. هذا ما حماني من خصوماتي التي لا يخلو بعضها من الخطورة. وقد سعيت كل السعي للاعتذار وتعويض من ظلمته، فالذي قبل اعتذاري كان بها، والذي لم يقبل اكتفيت بالابتعاد عنه، والذي رفض الأمرين معا وجعل الأمر موضوع أذى لم يجعل الأمر صعبا عليَّ أن أردَّ عدوانه إن كان هو البادئ. لا يوجد شيء يحميك أكثر من ألا تكون من ضرب اللكمة الأولى، ولكن إن بدأ الشجار، ليس بيدي سوى أن أكمله! ومن قال أن الحياة بعد كل تلك المعمعة ستكون سهلة؟ لا أحد يعيش حياة سهلة مهما كان!

وكأنني أتحدث عن هيكل قديم، أو كائن يثير استغرابي. هذا الذي أكتبه الآن هو حقا حياتي! أنا ذلك الإنسان الذي كُنتُه، وفي الوقت نفسه لست أنا! كيف أشرح ذلك لا أعرف!
لكل حكاية نهاية. وانتهت قصة عبثي تصعلك بما يكفي. من أنا الآن؟ طالبٌ على وشك دخول سنة التخرج. إنسان في الأربعين يقاوم مرض السكري، ويحاول تهدئة نسبة الكوليسترول في دمه. أسعى للحياة، وللنجاح، ولكسب الرزق، وأسعى لتأسيس شركة صغيرة في مجال التسويق (أهيس وأقرز) فيها منذ سنين. أعرف أصدقائي، وأعرف أعدائي، ولا أعتدي على أحد. لحظة الإدراك، أن هذه هي حياتي الآن، وأنها بعيدة كل البعد من تكرار الظروف التي قادت إلى آلامٍ بعضها لن أشفى منه لنهاية العمر، أكمل العمر ببقاياي، وأنا راض عن ما تبقى، هذه البقايا تكفي وتزيد لأكمل الباقي من سنين العمر، لأؤدي واجب كرب أسرة، وأفعل ما بوسعي لعائلتي.

وأولا وأخيرا:
جزاك الله كل الخير أيها السلطان هيثم بن طارق.