تتغيرُ أشياءٌ كثيرةٌ في
عُمان. المباني، والشوارع، والنخيل على الدوارات، ولوحات المطاعم والمقاهي
الكُبرى. يمضي حُكم الزمن على كل شيء في عُمان، إلا على كل ما له علاقة بالحريات
القولية، والفعلية. هُناك، تثبت عُمان بكل عنادِها، وبحسٍّ مناعيٍّ عالٍ للغاية في
تفنيد كل جديد، وتعمينه، وشيطنته، ثم الرضى التدريجي بما يوصف في عالم المثاليات
العُماني [النافع]. من هذه الناحية عُمان لا تتغير، فهذا السجال بشري، أزلي، قديم،
وحتى هذه اللحظة يعاود إحياء نفسه من رماده السابق بالظروف نفسها، وبالأدوات نفسها،
تتغير الأسماء والشخوص ويبقى جدال الحقوق، والحريات الفردية والعامة، والدين،
والسلطة مستمراً لا يختلفُ ولا يتوقف.
أن تحلمَ بحلمٍ غريب، مثل أن
تكون كاتباً فأنت على وعدٍ مع مأساةٍ كبيرة في حياتك في عُمان، فالكتابة ليست صنعة
عُمانية شبه خاسرة فحسب، إنها صنعة عربية، ومن النادر كل الندرة أن تجد كاتباً
يعيش حياته مائة بالمئة من ريع كتبه، فهو إما إعلامي على الجانب، أو يعطي محاضرات
أكاديمية، أو يتنقل من قناة إعلامية كبيرة إلى أخرى، أو اخطبوط علاقات دولية ويجد
لنفسه مقعدا في الفعاليات الكبرى، وهذا النمط موجود في عُمان ويمارسه كتابُها
الكبار وصنعوا جزراً خاصَّة بهم، عربيةً، وعالميةً ويعيشون حياتهم الأدبية بالطول
والعرض خارج قلق النشأة، وإثبات الذات، قلقهم إكمال قدر ما يمكنهم مما حققوه، ونشر
الكتاب وراء الآخر.
لم يعد المجتمع الثقافي
العُماني هو نفسه الذي كان قبل عشرين سنة، فحتى قبل أحداث 2011 التي من بعدها تغير
حالُ الثقافة في عُمان وتحول إلى حالة من الاستقطاب والصراعات وبدايةِ شيوع أخبار
اعتقال الكاتب فلان، والمغرد فلان، وصاحب المقال فلان، وصاحب [السناب شاتة] فلان،
وغيرها من حتميات الحياة في عُمان، لست بصدد تأييد أو شجب هذا الواقع الحتمي إنني فقط أقول ما يحدث عالما في قرارة نفسي
أنني لا تمنى حدوث كل ذلك، وعالما أنني أتمنى أن يتولى الجانب التشريعي العُماني
حلولا مبتكرة تضمن على الأقل حرية التعبير الإبداعي، والتوقف عن إعاقة مجتمع
المبدعين، والكتاب، والأدباء، والشعراء بعيدا عن مهرجانات التسييس، وصراع النخب
الاجتماعية، أو الصدام التكتوني الكلاسيكي بين صفائح السلطة، والمجتمع، والدين في
كُرةِ عُمان الأرضية.
ماذا يقول لك الواقع الحتمي
في عُمان؟ ما دمت تعيش في عُمان فأنت في دولة ملكية يحكمها سلطان، وهو الذي أصدر
النظام الأساسي الذي هو النص التشريعي الأوَّل، وصاحب القدرة، والنفوذ،
والإمكانية، والذي بناء عليه يتم بناء باقي التشريعات، وإلى هذه اللحظة واقع الحال
يقول أن القانون هو الذي يحدد [إمكانية] التعبير عن الرأي، فهناك آراء ممنوعة من
أن تُقال أو تُكتب، كما أن هناك سلوكيات ممنوعٌ أن تُمارس، وهي كثيرة ومشروحة في
النصوص القانونية. عندما تكون كاتبا شابا وأنت تعيش هذه الظروف فمن التلقائي أن
نهاجر إلى كوكب الإنترنت، لنمارس أفراداً دور مؤسسة تعويضية كبيرة تستبدل الجمود
الذي تسببه حالة رقابية بلا استراتيجية واضحة، أساسها الخوف من الجديد، وعروقُها قادمة
من اعتيادنا العُماني على مقاومتنا لكل ما هو جديد، هكذا جاء النتُ في عُمان، ولد
غريبا، وساهمَ في تزييت سلاسل اللغة والتعبير والإبداع بكل تروسها الفردية في
الآلة الكبيرة.
لعلك وأنت تقرأ هذه السطور لم
تعش ذلك اليوم الذي عندما كنت تحتاج أن تشتري فيه كتابا، فمعناه أن تذهب وتشتري
كتابا، ولم تعش حرقة أن منع كتاب يعني منع كتاب، في هذا العصر التقني الحديث رواية
لك تنتشر على الواتساب تكفيك لتصل إلى آلاف البشر، هذا من حيث الانتشار؟ ولكن ماذا
من حيث الحقوق؟ ماذا من حيث ديمومة الإبداع؟ ماذا من جانب ممارسة الكتابة وكأنها
عمل تطوعي، أو هواية مكلفة يمارسها الإنسان لأنه ترف وجودي أو ذهني أو رغبة مهووسة
في الظهور أو إثارة الجدل، أو تخليد جيناته الفكرية في كتب أو مادة منشورة.
هُناك يشكل التدوين البديل
الملائم لكل ذلك الجمود، والتحفظات الكثيرة، وبدأت التأثير الإلكتروني في الحلول
على المؤسسات الإعلامية والثقافية ليحررها بعض الشيء من اللوائح المعقدة غير
الدينامكية وغير المحدد والغامضة والعامة والتي تحكم موضوع الرقابة الإعلامية. يعلم
الجميع الواقع العماني المتمثل في حقيقة مفادها أن سقف التعبير القانوني في عُمان
أعلى بكثير من نظيره الرقابي، بالتالي يمكنك أن تكتب ضمن المساحة التي لا يقيدك
فيها قانون، ليست شاسعة جدا جدا ولكنها أيضا لا تمنعك من الكتابة بدون أن يتدخل
الرقيب مباشرة في تحرير نصك، العلاقة الإلكترونية مع السلطة في عُمان مبنية على
شيء واحد، ردة فعل عقابية، غير ذلك يمكنك أن تفعل ما تشاء في الإنترنت، لحسن الحظ
القدرة الفردية على التعبير عن الرأي لا يمكن لأي وزارة إعلام أن تتدخل فيها،
وهُنا لا أمدح ولا أذم وزارة الإعلام، هُنا نقول أن اللائحة الحالية، والشكل
الحالي للرقابة، وبطء العملية، وترددها، ومزاجية الرقيب كلها عوامل أثرت على جودة الإعلام
المؤسسة وخنقته، وهذا هو الذي يقود الإنترنت في عمان إلى الانتعاش الدائم. فما
دامت بيئة الإعلام المؤسسي غير قادرة على توفير مساحة إبداعية، يزهر الإنترنت
ويثمر ويبقى هو الخيار الوحيد.
تغير الوضع كثيرا في الزمن
العُماني، لم نعد نتكلم عن قدرة فردية على نشر النصوص، أصبح الموضوع معقدا وكبيرا،
فلديك قدرة على التجمع، والتجمهر، بل والتظاهر البديل [الهاشتاج]، ولديك قدرة على
اللقاء، والحديث وإدارة الندوات، وكل ما في الحياة الثقافية من سلوك اعتيادي أصبح
يمارس في الإنترنت، وهذا حتى هو الذي أصبح يرفد المؤسسات الواقعية.
أصبح توجها عاما من قبل
كثيرين، وقامت على أساس التدوين شركات في صناعة المحتوى، ودور نشر، ومصورون،
وانستجراميون، وأصبح لدينا كوكب إلكتروني كامل، وحتى مهنة الإعلانات والدعاية قد
أصبحت الآن سلوكا مقبولا اجتماعيا، وهو من الأساس حق متبادل ضمن شروط التعاقد بين
الناس، لم يعد التدوين ملجأ هروب، لقد أصبح مكان حياة، ومن مدونين صغار،
ويوتيوبرز، وصناع محتوى فكاهي إلى مشاريع تعيل أسرا، وبعضها يمسك عقودا لشركات
ضخمة، تغير كل شيء عن ما كان عليه، ولم يتغير شيء واحد، أن المؤسسات تئن وهي تحاول
ملاحقة عصر البيانات الضخمة، و استقلال منصات الفرد.
بعد كل هذه السنوات من
المنصات البديلة، أصبح الكاتب، والمبدع، والمصور يفضلون أن يعيشوا حياتهم
الإبداعية الحقيقية عبر هذه المنصات الرقمية، أما الجانب المؤسسي منهم فهو فقط
اضطرار للتعامل مع تعقيدات الجانب المؤسسي المنظم لنشاطات الإعلام، أو صناعة
المحتوى الإبداعي، أو الإنتاج الفردي مثل الشعر والمقالات، والدراسات، وغير ذلك من
الأشياء.
التدوين، ذلك الذي غرق تحت التصورات
النمطية حتى أصبح الى مؤسسة قادرة على جلب الربح المادي، ونعم كل إنسان وخياراته،
والمتلقي وما يريده وما يكرهه، ولكن لم يعد من المستغرب أن يكسب لاعب لعبة إلكترونية
الآلاف الطائلة بعد أن استطاع فهم شروط النجاح الإلكتروني، واشتغل كل تلك الساعات
المهولة على ذلك. أظن أن العصر العُماني القادم سوف يحفل بانتباه المبدعين،
والكتاب، والشعراء، وكل أشكال التعبير الإبداعي للقيام بالتعامل مع منصاتهم بشكل
أكثر جدية، وكمهنة قبل أي شيء آخر. أظن أن الوقت القادم سيحفل بالمزيد من النازحين
من عناء المؤسسات وتعقيداتها إلى عالم الإنتاج الفردي، الذي أصبح مدرا للمال،
والإعلانات، وأصبحت إمكانية الحياة به ممكنة، ومع الوقت إذا تنافست العقول
المبدعة، وتوقفت عملية الإعاقة المتعمدة للجهود الفكرية، والإبداعية، وتمت [مأسسة]
الإنتاج الفردي، أظن وقتها سوف نبدأ في قراءة الأخبار عن تفريغ الكتاب، أو احتواء
الشركات لكاتب مسرحي، أو غيرها من شؤون العمل في المجال الإبداعي. هذا ما يتجه
إليه العصر القادم، وبقدر ما يفتحه ذلك من آمال، وإمكانيات في بلاد تُعاني بشدة من
شح في الوظائف المتوفرة، وأضيفت إلى أحزانها تسريح الموظفين عن العَمل، أصبح يمكن
أن يكسب الإنسان رزقه من التدوين، وصناعة المحتوى، بل وحتى بالألعاب الإلكترونية،
أو حتى قراءة القرآن والمحاضرات الدينية. لماذا التدوين؟ لأنه أكثر إمكانية، وأوسع
مجالا، وأقل تكلفةً. لماذا التدوين؟ لأنه يساعد الفرد المبدع على الاستقلال، وعلى
تركيز وقته على العملية الإبداعية، وما يأتي مع إتقانه ونجاحه من متلقين، وجمهور،
ومتابعين هؤلاء هم الذين سيؤدون إلى ديمومة العمل الإبداعي، والضغط المعقول على الذات
المبدعة يصنع قصص النجاح هذه.
لم يعد هما كبيرا أن تكون لك منصة
تكتب فيها، ولا لتنشر يومياتك فيها، سواء تلك الدائمة كاليوتيوب، أو المؤقتة
كموضوع [الحالات] المنتشر، لم يعد هما كبيرا أن يكتشفك الناس، كل ما عليك فعله هو
أن تجتهد على مهارتك، وأن تصقلها، وألا تجعلها سببا لتعيش بائسا لا تجد خبزتك.
سيقوم المبدعون باحتلال [السوشال ميديا] كما تسمى، وسينتصر المبدع الحقيقي، عندما تنتبه
وتربط الإبداع بخبزته. متى سيحدث ذلك؟ خلال سنوات؟ خلال عقود؟ سيحدث ذلك عاجلا أم
آجلا، وحتى هذا الإعلام المؤسسي بكل ما فيه من تقييدات، سيتجاوز كل ذلك بعد سنوات
وسيلحق بركب العصر، خلال تلك الفترة يسأل الفرد نفسه، ماذا سأفعل؟ هل يجب علي أن
أعطل سنوات إنتاجي المزهرة لأنتظر الكيان المؤسسي ليعدل خططه وليكسب المبدعين؟ إنها
منصة، كانت لمؤسسة، أو كانت في جوجل، أو كانت في اليوتيوب، أو كانت في الواتساب،
إن ناسبت المنصة الفرد وأعطته مساحته فهذا معناه إبداع، وربح، وإن أجاد المدوّن في
العصر الجديد فنون التجارة وصناعة المؤسسات وإدارتها فسترى قصص نجاح عُمانية بدأت
من تصوير يوميات في تسلق الجبال، أو في الغطس. لماذا التدوين؟ لأن عملية صناعة
المحتوى الفردية ليست عويصة، وسهلة، وبالذات في عُمان لأن السقف الذي يسمح به
القانون أعلى بكثير عن السقوف التي تحددها كل مؤسسة إعلامية عامة أو خاصة حسب مزاج
الرقيب، والصلاحيات المطاطية التي يمكنه أن يستخدمها عندما يريد أو عندما يرفض،
هذه حقيقة واقعية في عُمان وإن كنت كاتبا أو مبدعا فليس لديك خيارات سوى المجابهة،
أو أن تتصرف، تجد طريقةً لتكتب دون أن تكذب على نفسك أو على غيرك.
لماذا التدوين؟ لأنه من ضمن
المهمات الخفية له تحويل المستحيل قولا إلى ممكن، وإيجاد النسيج اللغوي الملائم
الذي يجعلنا نواصل قول ما نراه صوابا. لماذا التدوين؟ لأنه ظاهرة عالمية مستمرة
التأثير، ولأنه وصل إلى حالة الاستقلال التام، ولأن الجسور بين المؤسسي، والفردي
من حيث التدوين أو صناعة المحتوى الرقمي، أو النشر قد كسرت كلها، يمكنك أن تدون،
وأن تعزف، وأن تبدع، وأن ترسم وأن تبيع نتاجك مباشرة دون الحاجة إلى مؤسسات وسيطة،
لقد انقلبت الآيات، المؤسسات الكبيرة، والشركات هي التي أصبحت بحاجة للأفراد، أما
هؤلاء، فقد تعددت لديهم الخيارات، الباقي في يد المبدع نفسه، وما يفعله، وصقله
لمهاراته، وظروف حياته. قصص النجاح كلها احتمالات مؤجلة الحدوث، فمنهم من يموت
مبكرا، ومنهم من يصاب بجنون الشهرة، ومنهم من يصاب بالكسل ويتوقف عن الكتابة أو
الرسم، ومنهم من يتحول إلى شركة كبيرة بدأت من حساب يقوم بالتعليق الصوتي. لماذا
التدوين؟ لأن حواجزه أقل، وحدوده أكبر، ولأنه متنوع، ومتعدد، ويشمل الجميع، ولا
فيصلَ في تحديد وجهته سوى القانون الكبير للبلاد، والقضاء. لماذا التدوين؟ لأن
العالم لا يتوقف عن الحركة، ولأنه النموذج الوحيد الذي يمكنك أن تعمل فيه كمبدع، ويتحول
شغفك إلى مهنة، وبالتالي تتوقف عن التحسر عن السبب الذي دفع المؤسسة الفلانية،
والعلانية إلى عدم دعمك، لماذا التدوين؟ لأن العالم أكبر بكثير من أحادية مؤسسية
لا ترى المبدعين إلا ما ترى؟ لماذا التدوين؟ لأن الأمرين ممكنان، أن تعمل في
مؤسسة، وأن تبدع فرديا، وأن تحول إبداعك الفردي لمؤسسة، كل هذا ممكن، وخياراته
كثيرة، والباقي في يد اختياراتك. لماذا التدوين؟ لأنه أوضح الحلول.
معاوية الرواحي