بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 8 مارس 2024

مدارس الرقيب!

 عندما يتعلق الأمر بالتعبير عن الرأي في فهناك مدارس تتنافسُ في إمساك راية التشريع في حق الكلام، وتحديد كيفية الرقابة، والعقوبة فيما يتعلق بالكلام!


المدرسة الأولى: ترى المجتمع جاهلا، يعيش في العصر الحجري، غير متعلم، غير حضاري، والمشاريع الفكرية فيه خاوية، والثقافة مجرد هواية، والخطاب الديني مجرد رجعية، ولا تؤمن بأنَّ طرحا محليا يستحق الاحترام، وهي التي تتولى التنوير لهذا الجمع الجاهل، تتعامل معه باستعلاء، وتؤمن بتكميم الأفواه، وتوجيه الخطاب إلى ما يناسب نخبة مخصصة، ولديها أدلجة واضحة المعالم، تُعلي من شأن الرقيب، وتسمح له أن يفعل ما يشاء وفق منهجه ومدرسته الخاصة، والخصم فيها ليس فكرةً، وإنما هو شخص، وتؤمن بمدرسة العبرة، وتنتقي الخصوم، وتتعامل بمعايير مزدوجة، وبالنسبة لهذه المدرسة صلاحيات الرقيب، وقدرته على التلاعب ولي ذراع الأفراد أهم من أي شيء آخر، من أجل ذلك التنوير المزعوم، والسبق الحضاري، والشعور بنقص المجتمع وجهله. أساس عملها الدعاية والأدلجة وتمييع الخطاب الفردي بشتى الوسائل الممكنة. للرقيب في هذه المدرسة رغبة شديدة في المنع والهيمنة، وإن تعسر عليه المنع في شيء ابتكر سببا لذلك للحفاظ على سطوته وسلطته.

المدرسة الثانية:

تلك التي تعطي الكلام حجمه الحقيقي، بكونه كلاما. والتي ترى تأثير حرية الرأي موضوعا بناءً، تؤمن بسيادة القانون لا الرقيب، ولديها مرجعٌ قيمي تجاه حرية الفرد، تؤمن أن المجتمع منجمٌ للإبداع، وللأفكار، وأن إعطاء الفرصة للجميع للكلام ينفع البلاد، تؤمن بالقانون، وبالفردية [المكفولة] في حدود القانون. تعزز القيم والمبادئ المتسقة مع ثقافة المجتمع، ومع الدين، تأخذ من العالم ما يمكن أخذه، تجمع بين الفرداني والجمعي حسب الممكن المتاح، تؤمن بحرية النقد، ولا تتفق مع التجريح والقذف، ولا تعتبر مخالفة السائد حرية شخصية بالضرورة، تميل لكونها مدرسة شبه محافظة، ترفع شعار عدم التدخل في الخصوصية، وتحافظ على البناء الأسري العائلي كأحد مبادئها الرئيسية. تتسامحُ إلى حد كبير مع الآخر، وأساسُ خطابِها التعايش المشروط بالاحترام. تميل للحس الحمائي بعض الشيء عندما يتعلق الأمر بالخطاب الخارج عن السرب، ولكنها تدعو للحوار معه، وأن تقارع الحجة بالحجة. وهي مدرسة عموم الناس عادةً. للرقيب في هذه المدرسة حجج قانونية، لا يلجأ للمنع إلا في أصعب الظروف.

المدرسة الثالثة:

يمكن بسهولة تسميتها بالغربية، أو شبه الغربية. تميل إلى مساءلة السائد والمألوف وإدانته، تشبه المدرسة الأولى في النظر للمجتمع، هدفها الرئيسي هو إدانة السلطة، ومواجهتها، وإدانة الدين، ومواجهته، تتحدث بلسان غربي مبين، وتتطلع إلى الفردانية الغربية كمرجعية رئيسية لمفهوم حقوق التعبير، ترفض الرقيب والرقابة، وترفض القانون الذي ينظم الكلام بشكل عام، قليلة التعايش مع الخطاب الديني، وكثيرة الاستجابة إلى نداء الليبرالية الحديث، فردانية وليس لها علاقة بالجموع إلا بقدر اتفاق الأفراد الذين فيه. للرقيب في هذه المدرسة نزعة لمراقبة الأفراد الآخرين أكثر من مفهوم الرقابة، وتستخدم تقنيات الضغط الاجتماعي، والاغتيال الاجتماعي، "والكنسلة" وغيرها من الأدوات الشائعة في عصرنا الحديث. المدرسة الرابعة: المدرسة الدينية، مؤسسة تأسيسا قديما، واضحة المعالم، تؤمن أن الفقه الديني هو أساس التشريع، وأن العلماء هم قادة الأمم. تتبنى الدين كأساس لإصلاح الأمم، تتفق مع المدرسة الثانية في أهمية التعايش، وأحيانا تتفق مع المدرسة الأولى في النظرة للمجتمع، وغالباً لديها نزعة توحيدية للخطاب، محافظة، وأسرية بالفطرة، ومتصلة مع قضايا الأمة الإسلامية الكبيرة قبل اتصالها مع قضايا أخرى ذات نزعة قومية. تؤمن أن الرقابة على الكلام تكون بمبدأ الحلال والحرام، فكل ما هو محرم فقها محرم قولا، وكل ما هو حلال فقها حلال قولا، تدعو إلى الفضائل والأخلاق التي يحث عليها الدين، وهي مدرسة يعرفها الجميع من الأساس لا يوجد أي داعٍ لشرحها أكثر من ذلك. الرقيب في هذه المدرسة يستند للنص الشرعي، أو لمذهب معين، وسواء كان يتبع الديانة عموما، أو مذهبا محددا، أساس عمله الرقابي هو الحلال والحرام أكثر من أي شيء آخر. لكل مدرسة عواقب ومنافع ... وأسوأ مدرسة هي تلك التي تؤذي المنظومة، وتؤذي المجتمع، ولا يستفيد منها سوى أشخاص يؤمنون بأن تكميم الأفواه أداة سيطرة مثالية تسمح لهم بالمزيد من السطوة، والتسلط.