بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 26 يونيو 2024

من وحي غربتين!

 عندما أراجع الآن تاريخ تفاقم الاضطرابات السلوكية التي كنت أواجهها، يعود للذاكرة أمران. الأوَّل، المشكلة الاجتماعية التي كنت أواجهها! تعاند المجتمع، والدولة، والدين، فقط لأنك تريد فعل ذلك، هنا المشكلة، أن تفعل ذلك من أجل العناد، ولأنك لم تحسم بعد موضوعات فكرية لا مساحة هادئة لحسمها، والنتيجة، إما تمرد أهوج، أو امتثال اجتماعي غاشم، وكلا الأمرين لا يتجاوز أن يكون ردات فعل.

وهكذا بدأت الحكاية، الفضول الشديد، والاستعداد للخسارة، وغياب الشعور بالعواقب، وكنت أظن أن الأمر لا يتعدى أن يكون لعبة لغوية مرتبطة جذريا بنزعة التعبير الحر عن الرأي، ولكن الحياة لا تسير بهذه البساطة، هذا الوضع المليء بالضغوط يتحول لاحقا إلى مشاكل حقيقية، وحتى تلك الروح المفعمة بالتمرد، والطاقة تتناثر لاحقا إلى مواجهات صغيرة جانبية، معظمها داخلي، حتى يصل الحال إلى ذلك الوضع الذي تكون فيه المعارك الداخلية أشد شراسةً من تلك الخارجية!

بعد السجن لأوَّل مرة، لا أظن أنني عشتُ قسما هائلا من الاضطرابات الداخلية، انشغلت بالغرق في عالمِ الإدمان، والغياب الاجتماعي وتأقلمت مع حياتي كشبح، واضحٌ للملأ، وغامض عن نفسي وعن الجميع، وضعٌ ينذر بالكارثة بعد حين ولو بعد سنوات، وفعلاً تتابعت هذه الكوارث واحدة بعد الأخرى.
السجن للمرة الثانية، ثم الثالثة، وكلها تلفُّ وتدور حولَ العدمية نفسها، غياب للشعور بالتعاطف مع الذات، فقدان للحقيقة، وبدأت المواد المخدرة في التأثير بشكل عاصف على بصيرتي، وحتى تعاملي مع الواقع، ثم السجن لمرة ثالثة!

لم تكن مشكلتي وقتها اجتماعية بقدر ما كانت مشكلة مادية بحتة، مؤثر إدماني متغلغل في جهازي العصبي، ومشكلات سلوكية تتراكم، وسنوات متتالية من الحياة في معمعة الشكوك، والظنون، ولاحقا كائن شديد القسوة ينمو مع الوقت من رفاتِ ذلك الذي كان يضرب به المثل من فرط طيبته، واستعداده للغفران، وتسامحه الزائد عن الحد. وأيضا، لم تكن المشكلة خارج خطوط العودة الممكنة، طبيا، ونفسيا، واجتماعيا!

السجنُ الكبير الذي امتدَّ 13 شهراً كان هو الحاسمُ في عملية التغيير للأسوأ، بعدها! لم تعد هناك خطوط عودة وانطلقت القسوة من عقالها. أذكرُ جيدا الغليان اليومي الذي كنت أعيشه، والغضب المحتقن والمتراكم، والشعور العارم بالرغبة في أن أكيل الأذى لمن أذاني، والذي للأسف الشديد طال بعض هؤلاء الذين لا ذنبَ لهم. مأساة التحول من إنسانٍ لا يعرف الشر إلى إنسان يعيش لأجل الشر! مأساة لا تخلو من الألم اليومي الشديد، والذي لا تنفع معه مخدرات، ولا تنفع معه مواساة! وكان ما كان من فصول المواجهات، والخسارات.

النتيجة النهائية لكل تلك المغامرات أنتجت مسخاً جاهزا لإيقاع الأذى، هجوما، أو دفاعا عن النفس. وكم هو صعب أن تكون قاسيا بعد طيبة! تمزق مع كل تصرف مؤذ جزءا من نفسك التي تمنيت أن تبقى عليها، تمزق شعورك بالسلام، وتبدد خطوط العودة المأمولة. واستقر بي المطاف بين مشاكلي وأزماتي، ولا عقل مستقر يمكنني من التفكير في أي وسيلة تعيد لي الطمأنينة!

هُنا أدركتُ أنه يجب علي أن أستبعد عامل الإدمان على المخدرات تماماً من حياتي، لأحظى بحياةٍ مستقرة، يجب أن يكون عقلي مستقرا، وببصيرة واقعية، تلك الأيام التي كنت أنقطع فيها عن المواد المخدرة شكلت لي نقلة هائلة في التفكير، هل تعرف معنى أن ترى الواقع مجددا؟ دع عنك أن تتصالح معه أو أن ترفضه، ودع عنك أن تطيعه أو أن تحاول إنقاذ دائرتك الخاصة منه، فقط أن تراه! أن تبصر الواقع هذا في حد ذاته ملاذ أوَّل، لتفكر بعدها في الطريقة التي تنجو فيها من كل تلك التراكمات المعقدة التي تحولت إليها حياتك!

الرياضة كانت الوسيلة التي قاومت بها ردات فعل الجسد المدافع بشراسة عن إدمانه، وهذا ما لايعلمه كثيرون عن عالم الإدمان، المدمن مستعد للدفاع عن إدمانه، ويصنع كل الظروف الممكنة التي تجعله يلف في الدائرة نفسها، قراراته الاجتماعية، صداقاته، حتى طريقة تنظيمه لوقته كلها تلف وتدور حول الهدف النهائي نفسه، الجذب المغناطيسي الشرس لكي يسخر حياته من أجل المكوث في عالم التعاطي.
هذا ما فعلته الدراجة الهوائية لي، مهرباً مدته خمس ساعات أو ست ساعات أعود فيها إلى التفكير بشكل شبه صحي، الجسد، والصحة، وأسئلة جودة الحياة، ومن ثم العودة للمنزل، والاتصال [بالديلر] والعودة إلى ذلك الجو المكفهر، المقبض، المليء بالكوابيس، والشكوك، والظنون، والذهان، واضطراب المزاج، والتناول الأعوج لعمليات التفكير، والقرارات السريعة والمرتجلة التي يمتاز بها الإنسان الحشَّاش عادةً.

هكذا بدأت كفة الميزان تختلف. الساعات الطويلة من التعاطي [والسطلة] بدأت تنافسها ساعات أخرى من الرياضة والدراجة الهوائية. وبقيت المعركة مستمرة لأكثر من عام! حتى بدأت المحاولات للانقطاع النهائي تصبح أكثر استمرارية. شهر، ثم فشل، شهران، ثم فشل، ثلاثة شهور ثم فشل.

كل هذه ساعات تُكسب في التفكير المنطقي، ساعات تُكسب في حلحلة مشكلات نفسية، وفكرية، واجتماعية، وسلوكية، ونعم تحدث النكسة، لكن شتان بين نكسة حدثت دون تأمل وتفكير وتبصر، ونكسة حدثت سريعا!

أذكر أنني وقتها قد بدأت دراسة علم النفس في جامعة في بريطانيا، وكانت إرهاصات كورونا تحدث، كنت وقتها دراجاً لا بأس به يقود دراجته لمدته تفوق الست ساعات يوميا ولا يتنقل إلا بها، ومنها اتخذت القرار الصعب، دفعة واحدة الانقطاع عن جميع المؤثرات العقلية والاكتفاء بالقهوة! ويا إلهي! كانت أياماً أصعب بكثير من أي تجربة عشتها في حياتي التي لم تخل من حبس انفرادي تجاوز المائة يوم!

من الظالم للحقيقة أن أزعمَ أن عملية التجاوز لكل هذه الفصول المتعاقبة من الاضطرابات كانت سريعةً، لم تكن سريعة، وقد أخذت وقتها الذي امتد لسنوات، وفرت دراستي في تخصص علم النفس وقتا طويلا عليَّ من التجارب، ومن الاعتماد الهائل على المعالجين، ولكن مع ذلك، احتجت للعلاج بالتوعية الإدراكية، واحتجت للعلاج الدوائي، وقطعت شوطاً هائلا، وعشت نكسة واحدةً صغيرةً انتفضت بعدها بوحشية ضد فكرة الإدمان. المادة المخدرة قادرة على تحطيم أذكى العقول، وأجمل القلوب! الاستخفاف بها ليس أكثر من خطأ استراتيجي يرتكبه الإنسان تجاه سلامته وسلامة غيره.

كانت رحلة صعبة للغاية، بمعنى الكلمة، ولكنها مرَّت. الشهر الذي كنت أحلم أن أكمله بدون مخدرات أصبح سنوات، والسنة التي تمنيت أن أعيشها بدون انتكاسة نفسية أصبحت أربع سنوات، والمزاج الذي كنت أسيطر عليه بجرعة عالية من الأدوية النفسية صرت أسيطر عليه بتنظيم النوم، وبالكثير من تنس الطاولة والرياضة، والتفكير الذي كنت أحار في التعامل مع إعوجاجه صرت أناقشه مع المعالج النفسي، وأتعلم المزيد من الأدوات والمهارات العلاجية في التخصص الذي أدرسه، وهكذا انتهت حكاية إنسان مضطرب اكتسب ما يكفي من القسوة ليدافع عن نفسه عند الضرورة، وما يكفي من الإنسانية ليواصل الحياة كرب أسرة، وفرد من عائلة، وابن لمجتمع، وصديق لبررة صالحين يجعلون منه أجمل مما كان عليه في كل خطوة يخطوها.

وكان ما كان، والحمد لله، من اتصال عبد العزيز الهنائي بي، إلى رحلة العفو، إلى كل ما فعله أبي من جهود من أجل العودة لعُمان والاستقرار بها ..
جزاك الله خيرا أيها السلطان هيثم بن طارق، وجزاك الله كل الخير يا صاحب السمو السيد ذي يزن.

وشكرا لعُمان التي وقفت معي في غربتين ..

لا أعرف ما الذي ينبغي مني فعله بعد كل هذه الفصول، كل ما في ذهني هو الأمل أن أكون شخصا نافعا، وأن أحاول دائما أن أبقى إنسانا صالحا، لا أتمنى أن ينجح إنسان في جعلي مسخاً مجددا، أترك كل شيء في حياتي لكي أؤذيه، ولا أتمنى أن أعطي أحدا الفرصة لينجح في ذلك، حياتي ليست ورديةً، لكنها لم تعد كابوسا، وليست بقدر أحلامي وطموحاتي، ولكنها ليست في طريق معاكس لهذه الطموحات، هي حياة أخرى، لإنسان لا يعني أي شيء سوى للقلة الذين آمنوا بحقه في الحياة، وحقه في أن يحاول، عدا ذلك، الرزاق هو الله، والحافظ هو الله، والحامي هو الله، والغفور هو الله، والمنتقم الجبار هو الله. عليه توكلت، وإليه أنيب.

والحمد لله على كل حال.


الاثنين، 24 يونيو 2024

أسئلة عن الغفران الأحمق!


لعلك تتساءَل في قلبِك، في هذه اللحظة، عن نُبلك وأنت تغفر، تُسامح، وتبحث للمرة الألف عن العذر لمن أذاك. ليس مرة، ولا مرتين، ولا ثلاث، ولا خمس، تتساءل بحرقة وبحسرة عن السبب الذي يجعله ليس مثلك، لا يشعر بالندم، ولا الحسرة، وتنبش في المتناثر من كلماته وأعذاره عن أي شيء يبعد عنك تلك الحقيقة المُرَّة، أنَّك أمام إنسان سيبحث عن أي طريقة ليؤذيك ما دامَ هذا لن يؤذيه.

أبسطُ طريقة لأي إنسان يؤذيك فيه هو أن ينال ثقتك. وبغض النظر عن الطريقة، ينالها بالضغط، والتهديد بالابتعاد، أو بلي الذراع، أو بالخداع والتلاعب، الذي يشترط أن تثق به دون قيد أو شرط هو أول إنسان يجب ألا تثق به! هذا لا يعني أن تجعل منه عدوا، لكن بالتأكيد لا يجب مطلقا أن تجعله قريبا للغاية، قريبا للحد الذي يمكنه من تحقيق كافة التناقضات التي قد يكون هو أول من يجهلها عن نفسه.

ليس مفاجئا أو مدهشا في هذه الحياة أن يؤذيك إنسان يكرهك، ثمَّة بشرٌ تؤذي الآخرين دون أي موقف شخصي. الشخص الذي يكرهك أقل ضرراً بكثير من الأذى الذي يكون مبنيا على الحب والثقة، هُنا تصنع جروح الحياة المريرة، والتي هي للأسف الشديد لا شفاء منها، ثمَّة شيء يتغير بك للأبد عندما تمر بهذا الموقف، شيء لا شفاء منه، ولا تجاوز له.

والسؤال الكبير هو: لماذا سمحت لهذا القدر من الأذى أن يحدث؟ وهُنا تأتي حماقة الغفران المتكرر! عندما تتعامل مع إنسان يفرش لك طريق الحب، والثقة، باستحقاقٍ ثقيل، قد تظنُّ أنَّه يبحث عن الفرصة التي يعوضك فيها عن أخطائه، وقد يعترف ببعض الأخطاء الصغيرة، لكنك مجددا تقع في الفخ الكبير، تتمنى أن يكون هذا شيئا خارج طبيعته، تصنع ألف حجة، لأنك مصاب بالأمل غير المنطقي، الفخ نفسه يتكرر، تصدق، تثق، ومن ثمَّ تكتشف أن الذي أذاك مرارا وتكرارا لا يريد سوى أن يبحث من لسانك عن براءته، يريد أن يقنعك أنك كنت تستحق كل ذلك الذي حدث من جانبه. الذي أذاك ليس مشغولا بتعويضك، أو بالندم، الذي أذاك أذى جسيما في هذه الحياة لا يبحث سوى عن براءته من جرائمه في حقك، وكلما كانت هذه الجرائم شديدة، أو مرتبطة بالعنف، أو الأذى المعنوي الجسيم، كانت طرقه أكثر تناقضا في البحث عن أي شيء يجعلك أمام عينيه تستحق المزيد!

وأنت غارق في أوهامك أن هذا الذي أصاب حياتك بالأزمات نادم، ستراه يقترب منك مرارا وتكرارا، ويبحث عن الطريقة التي يؤجج بها ما في نفسه تجاهك، وسواء كان يفهم ذلك، أو لا يفهمه، تقع أنت كالغبي في الفخ نفسه، وتقترب، وتندفع عاطفيا لأنك مشغول بالأمر، ولا تستطيع حسمَ ذلك الطوفان الهائج من الأمل، أن البشر يتغيرون للأحسن، وأنَّك بغفرانك قد تكون سببا لتغييرهم، تود لو أن تأخذ الحياة مسارا آخر، وأن تعيش نهاية سعيدة، وأن يعتذر لك على أذاه الشديد لك، وأن تغفر له، وأن تقف معه ليكون إنساناً حقيقيا، صادقا، يعترف بخطئه، ويرفض أن يكرره!

ونعم، هذا يحدثُ، في ظروف عجائبية يحدث، مثل المعجزات النادرة، يحدث الندم الصادق، ولكنه لا يحدث في وقته، دائما يحدث بعد فوات الأوان، بعد أن يغالي الطرف المؤذي في أفاعيله حتى يعلم هو نفسه أنه بالغَ، وأغلب الظن حتى اعترافه وندمه ليس أكثر من وسيلة تلاعب ربما فقط ليتجنب ردة الفعل، أو ليتجنب أن يحاسب على أخطائه.
كم من العلاقات التي بدأ العنف فيها بصفعة وانتهى بطعنة سكين! ماذا بعد طعنة السكين؟ الكثير من الندم، والشعور العارم بأنَّ الطرف المؤذي فقد السيطرة، قد يندم حقا، وقد لا يندم من الأساس، وإنما يضطر لمواجهة عواقب أفعاله، وقد يحدث ما هو أسوأ، ونسمع عن جريمة القتل المفاجئة التي لم تحدث بين ليلة وضحاها.

التعامل مع الأذى سؤال كبير جدا، وجميع أجاباته صعبة. أول الحلول هي أي تتيقن في قلبك أنَّه تماما يمكنك العيش بعيدا عن أي إنسان أذاك، لست مضطرا لتغييره، لست مضطرا للتعايش مع عنفه، لست مضطرا لتقبل تناقضاته، وحججه الواهية، لست مضطرا على أن تكون أنت طبيبه، أو كيس ملاكمته، لست مضطرا لممارسة الغفران.
وقد تعيش كل هذا وأنت لا تعلم أنك حصنت نفسك، ليس بأن تكون جاهزا لحربٍ تدافع فيها عن نفسك، ولكن لأنك توقفت عن الاهتمام، هذه بداية الشفاء، لم يعد ذلك الكذب يخطب ود أذنيك، ولا تلك الآمال بالتغيير أصبحت تهمك في شيء، تصبح إنسانا لا يهتم، يحمل جروحه بعيدا عن من سببها، ولا يراهن على أن الشفاء سيكون من السكين نفسها التي سببت الجرح.

بعض النهايات لا تحتاج حربا، تحتاج فقط أن تتوقف عن الاهتمام، وأن تبتعد، وأن ترفض تصديق الموَّال المكرر عن هذا الإنسان الذي يريد مصلحتك، أو يريد لك الخير، أو يفتح ليل نهار صناديق الخصومات، الإنسان الذي يتدخل في حروبك ليختار أيها تكسب وأيها تخسر، الإنسان الذي يتصيد من نكساتك وأخطائك ما يجعلك أقرب له، وأكثر تعلقا، الإنسان الذي يبحث عن أدنى سبب ليؤذيك، المضطرب الذي لا يفهم نفسه، ولا يفهمك، ولا يستطيع أن يسيطر أفعاله، ويلومك على ردات فعلك.

بعض النهايات تحتاج فقط أن تتعلمَ القليل من اليأس الصحي، والكثير من الابتعاد المحكم، بعض النهايات تحتاج إلى أن تسمى باسمها: نهاية ..

أن تتوقف عن إيذاء نفسك بالأمل المزيف، وأن تتعايش مع الخسارات كلها، وأن تتنازل مقدما عن أي منافع معنوية، أو مادية، أو شخصية، أو نفسية تأتي من إنسان أذاك بشدة ذات يوم.

الأمر لا يتعلق بالحقد، ولا بالانتقام، ولا بالتربص المرضي، ولا بتلقين الدروس، الأمر يتعلق بتعاطفك مع نفسك، وسعيك لإنهاء المجادلات التي لا تنتهي مع إنسان يريد منك إما صك براءة، أو عذرا ليوقع بك المزيد من الأذى.

ثمة حالات لا يهم فيها أن تفهم، ولا أن تجد السبب، ولا أن تجد الإطار النفسي أو الفكري أو الفلسفي العريض للسبب الذي جعلك تتعرض للأذى، هذا كله جزء من الوهم الكبير أنَّ الذي أذاك يريد أن يعوضك، جزء من تعايشٍ خاطئ مع ظرفٍ لا يجب أن تستمر فيه، بعض النهايات ليست سعيرا، ولا نارا، ولا فقدا، ولا حزنا شديدا، بعض النهايات باردة، مليئة بالرماد، شاحبة، خالية من اللون، كالماء المعكّر بالطين، من الغباء أن تقضي وقتك محاولا تصفيته.

لا تغفر، لا تحقد، لا تنتقم، لا تقترب، وانس بسلام إن استطعت، ولكن لا تضعف وتعيد إقناع نفسك أن بعض العلاقات في هذه الحياة يمكن إحياؤها، ثمة يأس حميد، فالأذى سببه اقترابك، وتصديقك، وثقتك، إن كنت ستصدق، وستثق، فلا تقترب، وإن كنت قد حسمت موقفك فلا يفرق لديك القرب ولا البعد، ولا يجب أن تشغلك ذاكرتك بالأيام البعيدة، أو بالأسئلة المعقدة لما كان ينبغي أن يكون!

في حياة كل إنسان جرحٌ مثل هذا، ولكل إنسان طريقته في الشفاء، والتجاوز، والتقبل النهائي أن بعض الأحزان في هذه الحياة غير متوقعة، ولا أحد يستحقها، ولكنها حدثت فحسب! أنت الذي عليك أن تتجاوزَ كل ذلك وتكمل حياتك، وتضع الأمل في نصابه الصحيح، بعيدا عن محاولة إنقاذ الماضي من حقيقته!

السبت، 15 يونيو 2024

قرابين ليلة العيد!

 ليست ليلة العيد، ولكنها إجازة العيد. ولا مفر من تلك الليلة التي تستعيد فيها أصعب ما في ذاكرتك! مررت على تويتر هذا، الذي يتذكر من فقده، والتي تخاطب بعيدا أحبته، والذي يكتب عن ممنوعته الحبيبة وحبيبته الممنوعة، كُل إنسان في هم، وكأن هذه الليلة ضريبة يجب دفعها في كل عيد!


ليلتي مع الأمس وذكرياته، وأبرزها أيام الإدمان التعيسة! خمس سنوات تقريبا بلا نكسة، سوى واحدة سخيفة للغاية انتفضت بعدها بكل غضب الكون.
كلما أعيش الآن في المشهد الاجتماعي، أو أنشر فيديو ما يتناثر في الواتساب، أو أكتب تغريدة تنال رضى عقول أحترمها، يبقى في نفسي ذلك الأثر الغريب، وكأنني أرى إنسانا آخر، وكأنني أطلق الأحكام على شخص غيري وأقول: تخيل! هذا الشخص كان يوما ما مدمنا على المخدرات!

خمس سنواتٍ من التعافي، والآن فقط أكون نظرة موضوعية عن خطوات التعافي النفسية. الأمر لا يتعلق بأن تتعافى لأنك خائف من القانون، ولا أن تتعافى لأنك تريد توفير مالك، الأمر يتعلق بأن تكون موقفا تجاه الشخص الذي تكونه وأن تحت تأثير المخدرات!

يا إلهي! كل ذلك الجنون حدث حقا! ذلك الهذيان العلني، ذلك الهياج، والأيام الانسحابية المجنونة، واضطراب القلق، والذهان، والتصريحات الحمقاء، والنوبات المتتالية، والفقدان التام للاتزان، وكأنني حقا أتحدث عن إنسانٍ آخر، والآن فقط أصلُ إلى ذلك التصالح التام مع حقيقة أن الذي حدث، ذاكرةً لا أكثر، أيام حدثت وفاتت، وخلاصة تنفع المداد، والكلمات، خلاصة لا بأس بها لطالب علم نفس يتمنى أن يكتب شيئا مفيدا!

الأمر لا يتعلقُ بالتعافي فحسب، ولكنه يتعلق بسؤال الذات الكبير: من أنت؟
هذا السؤال الذي دفع بي يوما ما إلى خوض مغامرة الانقطاع التام عن المؤثرات الإدمانية، من أنا حقا؟ فقدت نفسي بين سجائر الحشيش، وسنوات التعاطي، والاستخدام الخاطئ لمضادات الاكتئاب، ولاحقا الاستخدام الخاطئ لحبوب النوم! خلطة، لعينة، كفيلة بأن أفقدَ الشعور بمن أكون حقا! حتى صوابي، وخطئي، حتى شري، وجانبي الخيِّر، حتى الذي أحبه وأكرهه، حتى علاقتي بنفسي كلها أصبحت ضبابية، ومغبَّشة!

إجازة العيد، بها قانون دائم، أن ليلةً بها تتذكر فيها تعاساتك في هذه الحياة، ولحسن الحظ هذا العام، ليست ليلة العيد التي ندفعها ضريبة للذكريات التعيسة. قربان هذه الليلة، ذاكرة الإدمان، وجنونه، والذلة والمسكنة التي يفرضها على الحر. البحث المجنون عن أقرب مصدر، الإفلاس، الآثار الإنسحابية، فقدان الوظيفة، الجنون الرقمي، الخروج عن السيطرة، الذهان، الشك، الاكتئاب، الشعور المستمر باليأس! يا إلهي! تلك السنوات حدثت حقا!

لن أتوقف عن تعريف نفسي أبدا بصفة "مدمن متعافٍ" .. لا يوجد قرار في هذه الحياة كان صعبا كقرار التعافي النهائي من تلك الحياة المضطربة.

التعافي شيء غريب! وفعلا من الصعب شرحه لمن لم يخض هذه التجربة اللعينة. إنه لا يتعلق بكل ما يقوله غير المدمنين عن المواد المخدرة، كل كلامهم غريب عجيب! سطحي، ضحل! ولا يفهمون معنى أن تستولي مادة مخدرة على عقلك إلى الحد أنها تقوم بتغييرك إلى إنسان لا تعرفه، إنسان ليس أنت!

من هنا يبدأ موقفك، ليس ضد المخدرات، وإنما ضد ذلك الإنسان، ذلك المعزز بكل الخلايا العصبية المرتبكة، والنواقل العصبية المضطربة، والتوازن الغائب، من هنا يبدأ موقفك! تجاه ذلك الشخص الذي تتحول أو تحولت إليه، تلك البذرة البيضاء في روحك تتحول إلى شجرة صغيرة من نور تناديك ألا تذهب للنهاية في بئر الظلام.

بعدها! تبدأ المحاولات، والنكسات، والإخفاق، لكن الموقف ما أن يحدث فهو لا يتوقف، وسيصل المدمن إلى حالة التعافي التام، بمعونة أو بدون معونة، سيصل! فقط عليه أن يصبر حتى تشبك تلك الموجة على الطريق الملائم.

تبدأ بالغضب على ذلك الشخص، على ما تكونه تحت حالة التعاطي، ثم يتحول إلى الرفض، والكراهية، ولا يصبح سعيك التخلص من مادة مخدرة، بل يصبح سعيك استعادة إنسان تخاف أن يختفي، إنسان تؤمن في قلبك أن به من الخير، والإنسانية، والمحبة ما يفوق حالات الإدمان، والحبوب، ومضادات الاكتئاب، والأدوية الخطأ، والسهر الزائد عن الحد، والحياة القلقة، والخيارات الخاطئة!

وتنقطع عن المادة المخدرة، [وتلتعنُ] حياتك بمعنى الكلمة! لا يوجد وصف للألم النفسي كوصف الآثار الانسحابية، وأن تعاني من الأساس من اضطراب عقلي مزمن! أهلا وسهلا! بكل الألم الذي يمزق أوصال الروح، ألم حقيقي، ولا مخدرات هذه المرة، شياطينك التي في عقلك، وأوجاعك، وذكرياتك، جافَّة، حادَّة، ترقص كشظايا الزجاج المكسور في دماغك.

الناس تتذكر مني مقطع "العمااااني ما مال شغل!" وأنا أتذكر تلك الأيام الانسحابية المؤلمة، الناس تتداول غضب مهاجر ولاجئ، والبعض يضحك من مريض نفسي مجنون [فاصل] وأنا أتذكر ذلك المدمن المتعافي الذي قرر أن يخوض غمار التجربة دون إشراف طبي، وفي أيام أيام كورونا! بعد عامٍ كامل من المحاولات اليائسة، يتخذ القرار في ذلك الظرف الصعب، وذلك الوضع الصعب!

فعلا افتقدت معاوية، ذلك الشاب المرح، البسيط، الذي يأخذ كل شيء ببساطة ولا يقيم وزنا لأي شيء، كل الذي يبحث عنه هو الضحكة، والفكاهة، والكوميديا التي يقدسها بجنون، حقا فقدت ذلك الشاب المسكون بالمرح والفرح، ذلك الهائم بجنونه الذي لم يكن ضارا، ولا مؤذيا وقتها، ثمَّ حانت ذاكرة المخدرات، والحشيش، والحبوب، والمهلوسات، وكل أشكال التجارب ليصبح إنساناً آخر، انتهى بي المطاف إلى لفظه، ورفضه، والتعامل معه بقسوة عقابية لم يكن لها حقا أي داعٍ.

إجازة العيد، وليلة الضريبة، ذكريات الإدمان تعود، والشعور المطمئن بالتعافي يعود. أكاد أنساه ذلك المدمن، ويذكرني به هذا المتعافي الذي يمسك بتعافيه كما يمسك بروحه. أتذكر أيام بريطانيا، وأيام سجن الوثبة، وأيامي في القسم الخاص، أيام الخوض، ومسقط، وأيام البحث المجنون عن "التولة" حيثما حلَّت في أي جحيم كان!

ياااااه! كل هذا حدث حقا! تلك السجون حدثت، تلك التجربة اللعينة بكل تداخلها المضطرب حدثت، ذلك الأذى حدث، ذلك الظلم حدث، تلك الأخطاء حدثت، وتلك المصائب وقعت على رأسي، والآن! كل تلك ذكريات لا أكثر، ذكريات من الحماقة أن أنساها، ومن المحزن ألا تتحاول إلى كتابٍ متكاملٍ تربط خيوطه موضوعات الصحة النفسية، والسلامة والنجاة الفلسفية.

هذا الذي عاش كل هذا، شابٌ في الأربعين، يروض ثنائي القطب، واضطرابا في التفكير، يغالب القلق، ويفعل ما بوسعه للتصدي للاكتئاب، ويفرمل دماغه إن قرر القفز إلى نشوةٍ زائدة من النشاط، هذا الذي عاش كل هذا، يقدم قربان ليلةٍ من الأجازة، ليتذكر كل هذا الجنون الذي حدث، وليعيش مجدداً تلك الغربة مع الغرباء، الذين لا يعلمون ما الذي أحاق به، ولماذا يبتسم بعد كل هذا الكدر، ولماذا يضحك بعد كل هذه التعاسة، ولماذا اكتسب روحاً غاضبة، جاهزة للانتقام، وروحا خيرة تتمنى أن تكمل الحياة في شيء نافع.

وماذا نحن في النهاية كبشر؟ لسنا أكثر من خلاصات ذاكرتنا، وما تبقى من الآمال الممكنة، روحٌ تحمل جسدا هالكا، ومعنى نبحث عنه، وبينما تسقط أوراق العُمر، نراه يتجلى ليتركنا أمام هذه الليلة التي نستطيع أن نقول فيها أين ذهب ما ذهب من العُمر!

الحمد لله على كل حال، هو الموفق، وهو الرازق، وما يكتبه خير ..

الخميس، 13 يونيو 2024

الرياضة والصحة النفسية!

 موضوع مهم، ويفتح أبوابا متشعبة للغاية. الرياضة والحالة النفسية، ودعنا نحدد بعض الأساسيات لنحاول الإلمام بالموضوع.

هنالك رياضة تنفع حالتك النفسية، ورياضة تضرها، ونقسم بشكل مبدئي الرياضات إلى نوعين: 1- نوع يعزز التأمل والخطاب الداخلي. 2- رياضة تشغلك عن الخطاب الداخلي. ما هو الخطاب الداخلي؟ من اسمه، هي الطريقة التي نتحدث فيها مع أنفسنا. لو كنت تعاني من حالات من الظنون، والشكوك، والتفكير القهري الذي يفرض نفسه على أفكارك، للحد الذي تختنق فيه من طريقتك في التفكير، وستقول في نفسك: أذهب لرياضة المشي، أو الهايكنج، أو رحلات طويلة بالدراجة الهوائية! نعم، صحيح بعد الرحلة ستشعر ببعض الإشباع الجسدي، المادي، ولكن ما الذي فعلناه خلال هذه الرحلة؟ جلسة طويلة من جلد الذات، واستحضار الذكريات المؤلمة، وبدلا من أن تشغل ذهنك عن الخطاب الداخلي المؤذي أنت انغمست فيه، بل وسمحت له أن ينفرد بك في رحلات طويلة هدفها الرئيسي تخفيف معاناتك النفسية. على الجانب الآخر، شخص يعاني من ضغوطات، وقلق شديد في الحياة، ولا يعاني من خطاب داخلي قهري يؤذيه، ويسيطر على طريقته في التفكير أثناء الرياضة، هنا معنا شخص يمارس جلسة تأمل، وفوق ذلك، يمارس معها رياضة مفيدة ونافعة. وهُنا يأتي المزيجان السحريان، الرياضة، والخطاب الداخلي الإيجابي. تأتي أسئلة السلوك، وتطوير الذات، والسقف الممكن جسديا. هذا ما تغرسه الرياضة فيك، التزام سلوكي، ترتب نومك، تؤثر على تغذيتك، تصنع لك مجموعة من الإنجازات الصغيرة ليست فقط أثناء الجلسة الرياضية، أيضا أثناء شعورك بتطورك، وتغرس قيما كثيرة بك، ولاحظ، حتى هذه اللحظة نتكلم عن الرياضات [التي تنفرد فيها بعقلك] فلو كان عقلك أقوى منك، وينفرد بك معناه أنت على وعد مع الألم والشقاء النفسي والذكريات السيئة وهنا الرياضة تضرك، ليس بسبب الرياضة في حد ذاتها وإنما بسبب سلوكك الداخلي وخطابك الداخلي. وهذا له حلول كثيرة ولكن لسنا الآن بصدد تناولها. جميل، اتفقنا مبدئيا يا عزيزي مجاهد، الآن نأتي إلى الخيار الآخر المغاير، وهي الرياضات التي تشغلك عن خطابك الداخلي. لو كانت مشكلتك الكبيرة في الحياة التسويف، وتفويت المواعيد، ليس لأنك شخص تكتئب، ولكن لأنك شخص مشتت، ولا تركز، القيمة التغييرية التي تشكلها الرياضة لك قد لا تكون كبيرة إن كانت الرياضة أصلا مهربا يشبه سلوكك الآخر، يعني أنت مشتت، تذهب لرياضة لا تسمح لك بالتفكير، رياضة تشغلك عن خطابك الداخلي، وهنا لتحقق الرياضة فائدة نفسية معناه أن تستثمر وقتها لكي تتأمل في حياتك، وأحوالك، ولاحظ في الجزئية الأولى، أن تتبنى خطابا داخليا إيجابيا مليئا بالمراجعات، والنوايا الحسنة تجاه نفسك وأن تعتبر نفسك صديقا أنت تنصحه بما ينفعه. لكن فرضا، أنت شخص من النوع الذي يعاني من خطابه الداخلي، الرياضة التي تشغلك عن خطابك الداخلي هنا ستعيش فيها أثناء اللعب هدوءا، وتركز في شيء آخر، وبعد اللعب تعيش [النشعة] الجميلة، كم ساعة؟ خمس ساعات وعقلك المليء بالدبابير لا يؤذيك، هنا خففنا المعاناة، وهنا صنعنا الرابط الكبير. الرياضة مع تركيز، والرياضة بدون تركيز. ماذا بعد يا صديقي، الهدف من الرياضة سؤال كبير، هل أمارس الرياضة لأنني أعاقب نفسي على تقصيري؟ بالتالي أخوض تجربة مع الألم، ونظام [أندرو تيت] وأتمركز حول الإرادة الجبارة، وأمدح التجربة القائمة على العذاب؟ هذا قد يصنع لك زخما في أشياء كثيرة، ولكن هل هذا أفضل ما تفعله بنفسك؟ تنمي القسوة، والأحكام، ونجد ذلك مثلا في رياضات كمال الأجسام، تبدأ صحيا، وينتهي بك المطاف في اضطراب نفسي حقيقي، شعور بعدم الكمال وسمية عالية، ورفع أوزان مجنونة، وربما الهرمونات، والمنشطات، وتدخل في معمعة سببها سلوكك وخططك واستثمارك للرياضة في أهدافك النفسية، وينتهي المطاف بإصابة أو بفشل كلوي أو كما حدث لكولمان بإصابات هائلة في الظهر. لا يمكننا أن نقول أن هذه الرياضة تنفعك نفسيا. على الصعيد الآخر، هل الرياضة التي تمارسها رياضة اجتماعية، أم رياضة فردية؟ نعقد المسألة قليلا، نفرض إنك شخص يعاني من خطاب داخلي مؤذي، يعني المشي لوحدك قد يؤذيك، المشي مع شخص آخر تحبه سينفعك، لكن ماذا لو كنت تمشي مع شخص قلق مثلك؟ هل رأيت تفاوت النفع النفسي والضرر النفسي في الحدث نفسه. شخص يعاني من العزلة، يلعب كرة طائرة، في محيط إيجابي وجيد، هنا الرياضة تعزز قيما سلوكية تغييرية قد تدفعه إلى تكوين نموذج في العلاقات ينعكس عليه لاحقا في عمله، شخص يعاني من العزلة والخجل الاجتماعي ولكنه يلعب كرة طائرة مع مجموعة من المتنمرين الذين يعززون مشكلته الاجتماعية، التصرف نفسه واحد منهما مضر والثاني مفيد. وقس على ذلك الكثير، شخص لديه اكتئاب وصوله للخمسين، يذهب لصالة الحديد لكي يخفف آثار تقدم العمر، يختلف عن شخص في العشرين يفعل المستحيل لكي يزيد وزنه ويتحمل القلق الهائل، ويندفع اندفاع المبتدئين فتتحول هذه الرياضة إلى تعذيب للنفس، التصرف نفسه والدافع يختلف. آثار الرياضة تمتد إلى غيرها، لأن العقل واسع جدا، أما الجسد فيعلمك حدك الأقصى بسرعة، هذه في حد ذاتها [ضربة منطق] في كل مرة ترى فيها حدك الأقصى، تتعلم التنافس الشريف، تتعلم إنك لست أبرع إنسان في العالم، تأخذ في ذهنك قيم كثيرة فقط بمجرد ممارستك للرياضة. والخيار الحقيقي الذي يربط الرياضة مع الصحة النفسية هو نوعية الرياضة، ونوعية الخطاب الداخلي، والوسط الاجتماعي لهذه الرياضة، وهل هي راحة من العزلة؟ أم ذهاب للعزلة؟ قد تكون إنسانا رياضيا ولكن تحتاج إلى رياضة أخرى تخفف من قلقك، تهرب من تنس الطاولة إلى الشطرنج، أو إلى لعبة تخفف عنك الرياضة الأولى. وهنا دخلنا إلى آثار الرياضة الضارة على الصحة النفسية. للرياضة آثار ضارة جدا على الصحة النفسية عندما تكون لغرض التنافس، أو تلعب في بطولات، وأنت مصاب، أو تنهار تحت ضغط الجماهير، هنا التوقف عن الرياضة، والاكتفاء برياضة أخرى استشفائية قد يكون خيارا بين الموسم والموسم، ولكن! هل ستقول لميسي خذ راحة من كأس العالم وعد بعد أسبوعين! هذه ضرائب ونكد الحياة ونكد الاحتراف. قلق جدا، تلعب تنس طاولة! تحترق قلقا، قلق جدا تلعب تنس طاولة ولكن تتمرن للمتعة يخف عنك القلق. هل وصل المفهوم الذي أحاول إيصاله لك؟ الرياضة وسيلة للتحسين الكلي للصحة، والشعور بالثقة، وكلها أشياء إيجابية، ويا إلهي، يمكن اشتقاق ألف موضوع من هذه الفكرة فقط. لذلك الإجابة هي "يعتمد على أشياء كثيرة" وأعلاه ذكر بعضها، شكرا للسؤال الجميل جدا

آيات الدفتر الجديد!

إن كان ثمة شيء عليك كإنسان أن تأخذه من أخصائي في الصحة النفسية، فهو آخر ما يتبادل لذهنك! قد تظن أنني أقصدُ جلسات استشارية تتعلقُ بمزاجك، وقلقك، وتعاملك مع صدماتك، وفهمك لذاتك، وطريقتك في تأمل حياتك، وآمالك، وغدك، وعلاقاتك، بل وربما مراجعة فلسفتك ورؤيتك الشاملة تجاه حق الآخرين عليك، وحقك تجاه الآخرين، فضلا عن تجنبك للوقوع تحت طائلة المرض النفسي، وهذا يشمل القلق الحاد، والاكتئاب، والوسواس، وغير ذلك من الطارئ أو المستمر.
هكذا ستظن تلقائيا، ولكن ليس هذا الذي أتحدث عنه. أتحدث عن العلاقة بين الرياضة وعلم النفس. وفعلا هنا أتساءَل، إن كانت الرياضة بشكل عام ظاهرة سلوكية ونفسية! مرتبطة بالتغيير، وبالصحة، لماذا لا أكل الأمر إلى علم النفس ومختصيه؟ بشكل ما أو بآخر ترتبط الرياضة بعلماء التغذية، والصحة، ولكن ماذا عن الجانب النفسي في الرياضة؟ أليس من المنطقي أن أجعل مستشاري الأول في الرياضة "نفسانيا" ومن بعدها أنطلق إلى الجوانب التغذوية والصحية في الموضوع الرياضي؟

علم نفس الرياضة، كعالم الرياضة ككل، كالعالم أجمع مشغول بالمحترفين! ولكن ماذا عن الهواة؟ في العالم التنافسي كُل الأدوات النفسية الفخمة، والخريجون من أرقى الجامعات، وأصحاب أجمل الدراسات يتنافسون في ذلك المحيط الشرس، ولكن مجددا ماذا عن الهواة؟
هل تتخيل مفعول أخصائي علم نفس رياضي في حياتك؟ هل تتصور معنى أن يكون ناصحك الأول خبيرا متخصصا في مجاله، يعلم السلوك، ويعلم حدودك البدنية، ويعلم دوافعك التي تدفع بك لعالم الرياضة كهاوٍ؟

كطالب علم نفس، هذا هو المجال الذي أقتربُ كل يوم من اعتناقه، وتجربتي الشخصية في الحياة تثبت لي أن علم النفس هو الطريق الوحيد الذي يمكنه أن [يقنعك] بالرياضة، ليس كممارسة لها فقط، وإنما كسلوك متكامل، وتكوين للعادات، وتثبيت لها، ومراجعة للدوافع، ودراسة للأسباب التي تجعلك تستمر أو تتوقف!

الرياضة موضوع نفسي، بمعنى الكلمة، وأستغرب أن تُعامل خارج السياق النفسي، وكأن المضمون النفسي في الرياضة ليس أوَّل الأشياء المهمة.

انظر لرياضة كمال الأجسام، والسمية التي تبثها أحيانا من قبل بعض المدربين! موضوع نفسي، انظر للاندفاع الذي يمارسه الهواة في الرياضة، موضوع نفسي آخر!

مثال بسيط، لماذا كلنا نشترك في الأندية الرياضة ومن ثم نتوقف؟ أسئلة الدافع، وتغيير الحياة؟ كلها موضوعات نفسية بامتياز. علم النفس هو العلم القادر على إجابة كل هذه الأخطاء التي نقع فيها أجمعين، وأولها وأوضحها عندما ندخل عالم الرياضة كعقوبة على تقصيرنا تجاه أجسادنا، نبحث عن الألم، والتعويض، ولا يخلو الأمر من محاولات التعايش مع خوفنا من المرض والموت! ولكن هل هذا هو الصواب رياضيا!
قطعا لا! الصواب رياضيا لا يرتبط أبدا بالجهد العالي، أو الشاق، أو كسر الحواجز، أو تلك الإرادة العمياء التي يسوق لها البعض على اعتبار إنها [طريق النجاح].
تعشّق الألم، والعذاب، موضوع نفسي آخر، معاقبة الذات موضوع نفسي، الانسياق والوقوع تحت سيطرة إنسان يسممك ليل نهار لأنك متين وكسول، وقم من مكانك أيها الفاشل! وغيرها من الخطابات السامة موضوع نفسي آخر، خطابنا الداخلي المليء بالتأنيب، واللوم، والشعور بالحسرة، والندم، وعدم الاكتفاء، موضوع نفسي، كل ما في الرياضة نفسي في نفسي، سيكولوجي بامتياز!

المواضيع تتفتحُ، ومعها تأتي أسئلة جديدة!

لا أعرف ماذا كتبت قبل قليل! ولكن يبدو أنني أخيرا وجدت التخصص المثالي الذي سأكمل حياتي في تخصص علم النفس فيه! فعلا! علم النفس الرياضي!
 

يبدو أنني وجدت إجابة وجودية قبل قليل أثناء كتابتي لهذه التغريدة!