بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 29 سبتمبر 2024

فهم/تغيير/إصلاح/تطبيق/ نمو!

 

 

 

يؤسفني أنني أعي شيئا ما تمام الوعي، ومع ذلك لا أطبقه بالمنهجِ الصوابِ الذي يجب أن يكون عليه. لماذا أقول [يجب] لأسباب كثيرة، معظمها قراراتٌ تتبع الحقل النفسي، لم أتخذها، وليس بيدي أن أتطاول عليها بتكوين موقفٍ فردي خاصٍّ بي أمام تراكمها المهيب والشامخ. أعي، أنَّ الكتابةَ النفسيةً الإعلاميةَ يجبُ أن تُفصلَ عن الكتابةِ النفسية المتعلقة بسيرة التجربة الشخصية، هل بمقدوري أن أفعل ذلك؟ ربما نعم، ربما لا، لكنني لا أفعل ذلك لأنَّ حكايتي الشخصية النفسية قد أصبحت بدون قرارٍ منِّي مُلكاً لعمومٍ كبير. جانبٌ اجتماعيٌّ منها يرتبط بحياتي، والأحكام التي أتعرض لها، والمواقف المتخذة معي أو ضدي، وجانبٌ قانوني منها مرتبط بالمحاكمات والقضايا وأسابيع الحبس التي تعرضت لها، وجانبٌ نفسي يتعلق بالتشخيص وعلاقته بحياتي الرقمية العامَّة، ولاحقاً حياتي العامَّة ككل التي وجدتُ فيها نفسي بتسمياتٍ كثيرةٍ لا يخلو بعضها من التأثير على المحيط الاجتماعي، بشكل جيد أو سيء.

أمام كل هذا، ارتبطت حكايتي الشخصية بحكايتي النفسية، مبكراً. متى بدأت حقا؟ لعلها بدأت من اللحظةِ الأولى التي بدأت فيها أتلقى التشخيصات المتتالية والمختلفة من الأطباء عن حالةٍ مرضية أعاني منها، حالةٌ مزمنة كما يبدو. مزيجٌ من اضطراب المزاج، والنوم، والنشاط الزائد، والاكتئاب، ومزيج آخر مرتبطٌ بالخصال الشخصية، وتصرفاتي وسلوكياتي التي لا تخلو من اضطراب بيِّن. هُنا كانت بداية حكايتي الشخصية مع علم النفس، كمعارضٍ لهؤلاء [الحمقى] الذين يتوهمون أنَّه يعرفون عقلي أكثر مني! بهذه الحماقة والضحالة من شابٍّ عشريني، أعلن تمردي على هذا الحقل كاملاً، وظني أنني أرفض التشخيص، وبالتالي، حسبما أتوهم أنَّه تأطير عنجهي لإنسان ذي وجود متكامل، رفضت أيضا تلقي المساعدة المناسبة، وقررت من وحي رأسي أنني لا أعاني من أي شيء ذي بال، إنها مجرد "حالة" ما عابرة! ولكن هل هذا الذي حدث حقاً؟

 

بمعايير ومقاييس كثيرة، حكايتي الشخصية سهلة للغاية، علاجُ اضطراب المزاج أسهل مما يتوقع المرء، ولا سيما إن كان لم يقض فترةً كافية من الاضطراب والتفاوت العالي في المزاج. يستقر دوائيا، وبعدها يبدأ التحدي الآخر المتمثل في أسئلة الوعي، وفهم الحياة. يكون خبرةً ما في هذه الحياة تسمح له أن يكون بخير، وأن يفهم ما هو الصواب النفسي، وما هو السلوك الصحي، ويعبر في مراحل الحياة وهو يكتسب النضج من تجاربه، وأخطائه، والنصائح التي يفيض بها الحقل النفسي عليه. هل فعلت أنا ذلك؟ للأسف الشديد، قررت أن أكون معالج نفسي، وطبيب نفسي، وقضيت سنواتٍ لا بأس بها وأنا أظن أنني شبه مستقر، لم أكن أعلمُ أن الانهيار الكبير بانتظاري، وأنَّه لن يكون بسيطا، ولن يكون سهلا، وأن حياتي كاملةً سوف تتحطم، وسوف أنكسر نفسيا مع ذلك الانهيار. وحدث ما حدث، وعشتُ الجنون الحقيقي، والانفصال عن الواقع، والمرض، والخروج عن السيطرة، ووضعاً لا يمكن وصفه سوى بالمأساوي، فضلا عن وجود صدامات اجتماعية، ومؤسسية، وقانونية، وشخصية جعلتني في حيص بيص، من الذي يستطيع الشفاء في مثل هذا الوضع؟

 

بداية التغيير الحقيقية في وضعي كانت بتغييرٍ إدراكٍ ما كنت أحتفظ به في ملفاتي الذهنية الداخلية، أن الحياة بأدوية وصمة عار! كيف لا؟ وحتى الأمثال الشائعة تغدق الوصمة تلو الأخرى. (فلانٌ مغيَّب حبوبه) هذه الجملة التي نسمعها منذ الطفولة تكفي لنعرفَ لماذا نكون مقاومة هائلة لفكرة الدواء. كنت في بريطانيا وقتها، الوصمة الاجتماعية كانت آخر همومي، وكنتُ على وشك خوض أهم قرارات حياتي بالحياة دون مواد مخدرة من أي نوع

كنت أظنُّ وقتها أنَّ سبب التغيير هو العلاج، الآن وأنا أراجع الوقائع المتعلقة بكل هذا، أرى بجلاء تام، السبب لم يكن الدواء. السبب كان حقا أنني طلبت المساعدة، وأنني كونت المرحلة الأولى من الثقة بوجود علاجٍ ما، وبالتالي الثقة في وجود شخصٍ يساعدني.

في بدايةِ رحلتي لطلب العلاج الدوائي مررت بقصة سخيفة للغاية بسبب اختلاف الثقافات بين عمان وبريطانيا. عوملتُ معاملة المتوهمِ، والمدمن الكذاب الذي يقول دائما أنَّه: يريد أن يتغير!

كان هذا صحيحاً في البداية، عندما ظننت أنني يجب أن أطلب العلاج الدوائي ومن ثم يساعدني على تجاوز المرحلة الانسحابية لعادة تدخين الحشيش، إضافةً لذلك لم يصدقني الأطباء، ولم يصدقوا حكايتي، أنني إنسان مشهور في بلاده، وأنني سجنت بسبب تغريدات، وسجنت مع أجهزة الأمن، وأنني كنت أعمل في جهة سرية ومهمةٍ في الدولة. أشير إلى حكايتي الشائعة في عُمان، كل حياتي الحقيقية تحولت إلى [ضلالات وأوهام مرضية] وتخيل أن تعاني من أوهام وضلالات مرضية إضافية، ما الذي يحدث لك عندما ترى الآثار طويلة المدى لتجاهلك صحتك النفسية! الآن فقط، أعرف أن السبب الحقيقي المبدئي للدخول لحالة الاستقرار لم يكن فقط الدواء نفسه، وإنما الرغبة في الدواء، والرغبة في العلاج، والرغبة الداخلية الحقيقية في التغيير، ومن هنا بدأ التغيير.

 

الخطوة الأولى: الثقة في العلاج الدوائي

 

للعلاج الدوائي ميزةٌ حقيقية. نتائجه السريعة والتي تظهر خلال أسبوعين تعطي شعوراً واقعيا بالتعافي والتجاوز، تسرع من عمليات التفكير الداخلية التي لا تنشغل بالتعاسة، أو الغضب، أو القلق، وتبدأ في وضعنا في مسارٍ نفسي أفضل من الذي كنا عليه، هذا ما مررت به وما أعتقده عن العلاج الدوائي. ولأنني كنت أريد التحسن بكل ما في طاقتي ورغبتي في إنقاذ حياتي من معمعة معقدة للغاية، كونت إرادةً أخرى تجاه التعافي السلوكي، ربما نشأت في اللاوعي، وربما ساعدها الدواء، في كل الأحوال، كانت إرادة حقيقية وصادقة، ولهذا وللمرة الأولى بدأت تعطي نتائج جيدة، وبدأت تنعكس على استقراري، وبدأت المعادلة تتضح. استقرار، فهم، تغيير، تطبيق، نمو، وربما في الغد القادم: تحقيق للذات.

 

الخطوة الثانية: العلاج السلوكي

 

لم أثق يوما ما بالمعالجين النفسيين. ولماذا أثق بإنسان يجلس معي لطاولة ويكلمني؟ ألا أستطيع أن أكلم أحدا غيره؟ كنت كمعظم الدخلاء على الحقل النفسي أظن أن علم النفس هو [فهم علم النفس] وهذه مأزق فكري رائج، علم النفس هو ما تعرفه عن علم النفس، أما عن الجانب الآخر من الكثبان العلمية الهائلة والمتراكمة لحقل علم النفس فلم أكن أعرف عنه أي شيء. على صعيد العلاج الدوائي كل معرفتي مقتصرة أن الطبيب أقسم قسما طبيا بعدم البوح بأسرار مرضاه، وبالتالي كنت مطمئنا إلى هذه الحقيقة وبالتالي أعرف أن الطبيب النفسي يحفظ أسراري، وأستطيع أن أخبره أي شيء!

عرفتُ وأنا دخيلٌ على علم النفس هذه الحقيقة، أن الطبيب النفسي شيء، والمعالج النفسي شيء آخر. كنت وقتها قد رجعت إلى عُمان، ودخلت في حالة التعايش مع حياتي السابقة، ورحلة نفسية صعبة جديد علي، قبول أن كل ما حدث قد حدث، والتصالح مع خسارات فادحة، ومع وضع اجتماعي لن يكون سهلا، كلمة معركة كانت صغيرة أمام كل الضغط النفسي الذي كنت أمرُّ به لأصنع لنفسي موطئ قدم، وفرصا للحياة في عُمان.

لم يتوقف الوضع السابق، كنت معتمدا بشكل كبير على العلاج الدوائي فقط للمضي قدما في الحياة، ووضعي المعرفي وعلاقتي بعلم النفس لم تتغير، كنت منهم الذين يظنون أن فهم ما يقوله علم النفس هو حقا علم النفس، وأنَّ قليلا من الخطوط العريضة عن اضطرابات الشخصية، أو عن عموميات الشخصيات النرجسية، وعن شرح اضطرابات التركيز والانتباه كلها تكفي لكي أبني مقارباتي! لم أكن قد بدأت الدراسة بعد، ووصلت إلى طريق مسدود: معرفتي الذاتي، وتعلمي الذاتي، لا يكفي لكي أبدأ مسيرة النمو السلوكي، ولا تغيير طرق التفكير، أحتاج إلى مساعدة أحد ما.

 

بدأت تجاربي مع المعالجين. موقع إلكتروني معتمد، به معالجون من مختلف دول العالم، لم أكن مقتنعا حقاً أن هذا المعالج يتمكن من مساعدتي، وظننت أنه سيعرف أي شيء أستطيع أن أعرفه بنفسي. ثُمَّ بدأت أتجاوب مع واجباتهم، وما يطلبون مني كتابته، ومن ثم ما يخرجونه من كتابتي ومن كلامي ليثبتوا لي خللاً ما في طريقة تفكيري، خلل يؤدي إلى خلل آخر في السلوك، ومن هُناك بدأت دهشة العلاج المعرفي السلوكي: يا إلهي، هؤلاء حقا يفعلون شيئا يغير حياتي للأفضل!

 

المعالج النفسي يرى الأشياء من زاوية يصعب أشرحها. علم النفس بالنسبة له ليس علماً يؤطر به من أنت، أو يقرر به إن كنت مريضا، أو سيئا، أو حسنا، إنها سلوك عقلي ممنهج وله ضوابط صارمة للغاية. وعرفت فورا أن هذه الجلسات نافعة، ليس لأنها العصا السحرية التي تغير كل شيء، ولكن لأنَّها توفر علي شهورا طويلة في اكتشاف التغيير بالخطأ والكوارث. معلومة بسيطة عن بناء الحدود تكشف لك الكثير عن أخطاء لك في حياتك، معلومة أخرى عن قيمة الذات تكشف لك شيئا أهم عن الساعات التي تقضيها في تأنيب نفسك، وجلسةٌ تتعلقُ بقيمك وفهمك للحياة تكشف لك أسباب تهورك، وتكشف لك أسباب اندفاعك الخفي أحيانا، وتخفف من ساعات ضرب الأخماس في الأسداس وأنا أقول لنفسي: ماذا بك؟ ماذا بك؟ أي مصيبة في عقلك يا معاوية!

 

من معالجٍ إلى آخر، ولم أجد بغيتي بعد، وجدت معالجا ألماني الجنسية، ومنه بدأت حكايةٌ أخرى في حياتي. هل لأنه كان بارعا؟ ليس هذا السبب الوحيد، كان بارعا بمعنى الكلمة وخبيرا في مجاله، ولكن لأنني أيضا كنت مقبلا على عملية العلاج، متقبلا لواقعها التجريبية، ومستعدا لحدوث النكسات. هُنا شعرت أنَّ لديَّ "سند" حقيقي اسمه العلاج السلوكي، وشعرتُ أنني كلما واجهت أسئلة إشكالية في حياتي، تتعلق بسلوكي، أو بعلاقاتي، وجدت الملاذ الذي أذهب إليه، وأطرح أسئلتي، وأتكلم عن تجربتي، وبكل مشاعري الحقيقية. وبدأت جلسات العلاج المتتالية تعطي نتائج ملموسة، خلال ثلاثة أشهر ربما من الاتصالات المكثفة، ومن خارطة العلاج، وخارطة الطريق، ومحطات اللجوء المفاجئ نتيجة للضغط النفسي الشديد الذي أمر به بسبب الحياة.

 

الغربة النفسية شيء ليس بالسهل للنفساني. أعيش هذا كطالب علم نفس كل يوم، وأعاني كل يوم من الدخلاء في هذا المجال، ثلة الأذكياء الذين يقرأون علم النفس في معزل عن الحقل النفسي. أن تفهم المكتوب في كتب علم النفس شيء، أن تختلط من الحقل وتعيش فيه هذا شيء آخر. قراءة علم النفس قد تكسبك خيوطا ذهبية لتطوير ذاتك، لكن هل يمكنك تطبيق هذه التقنيات بنفسك؟ لمعالجة مشاكلك؟ للنفس طريقة في إدهاشك أنك تعاني من مشكلة تشخصها بسهولة في الآخرين، ثم يلطمك المعالج بشيء: ألم تقل أن هذا مشكلته كذا وكذا؟ عندما أخبرتني عن ذلك الموقف الذي تعرضت له قبل شهرين، بم تفسر ذلك؟ فجأة تصاب بالذهول وتقول في نفسك: يا إلهي! أنا أعاني حقا من هذه المشكلة!

 

هذا ملمح واحدٌ بسيط عن الذي يحدث داخل جلسات العلاج المعرفي السلوكي، وهو بحرٌ شاسع من التقنيات، والمهارات، والمدارس، والجلسات المتعددة، وبناء الملف المتكامل، ومراجعة الملف، ومتابعة تطور العميل، وإعادة النظر في بعض التقنيات، والنظر إل وتيرة التطور في سلوك العميل، وسعادته، ورخائه، وإقباله على الحياة، وإقباله على العلاج، ومقاومته لتعاسات الحياة، وصبره على القلق، والتوتر، وأيضا احتمالات انتكاسه المفاجئ. عملية مستمرة، ودائمة، لا علاقة لها بالحلول المفاجئة، وليس بالفهم وحده يعالج الإنسان نفسه، الرعاية والعناية والمتابعة هي التي تكمل تحقيق هذه النتائج والتي قد لا تكون مبهرة وجذرية في تغييرها، لكنها مرضية وتدريجية في نجاحها.

 

هل من المجحف أن أسمي العلاج النفسي "محطة صيانة" تشبه صيانة السيارات؟ أظن أن هذا مجحف في حق الحقل ككل. يمكنني أن أسمي العلاج المعرفي السلوكي والجلسات مع المعالج النفسي علاجا يشبه ذلك الذي تتلقاه من طبيب الأسنان. هذا أقرب تشبيه لعملية العلاج. وأيضا، لم يكن هذا العلاج ليعطي مفعولا أو نتيجة لولا اقتناعي وثقتي أن هذا الذي يسمى [سيكولوجست] يستطيع مساعدتي. وبعد الثقة بالعلاج النفسي بدأت حياتي تأخذ طابعا جديداً، سلوكي بدأ يتغير، كتاباتي بدأت تتغير، وأكملت عملية التغيير هذه بأن أصبحت طالبا في هذا المجال، هل أعالج نفسي بنفسي؟ قطعا لا. دراستي في هذا المجال عجلت من وتيرة النمو الشخصي، وسهلت على المعالج المهمة، وخففت عنه الشرح. المشكلة التي كان يشخصها بي أصبح يعطيني المصادر التي تساعدني على فهمها، وبالتالي الاستفادة من وقت الجلسة في توجيه ثمارها إلى مناطق علاجية أكثر، وأوسع، ولكن قطعا، ثم قطعا، أنا لا أعالج نفسي، فهذا مجرد خطأ شائع يمارسه حتى النفسانيون على أنفسهم، وطلاب علم النفس هم عملاء مزعجون جدا! أعرف هذا الشيء، وأيضا أعرف أنني أسلم عملية العلاج للمعالج لأنني رأيت عمله، ورأيت التغيير الإيجابي الذي عشته معه.

 

تغيير بسيط، ثم تغيير في التفكير، ثم سلوك مبدئي، تجربة، تقويم، وينتهي الأمر بنمو عام، وحياة أفضل. لا يختلف عن التقويم الوظيفي للموظف، ولكن هذه المرة الموظف هو ذلك [الأنت] الذي بداخلك. ذلك الصوت الداخلي الذي يتجادل معك، فكرة تبدو عادية، وكأنك تعيشها مع نفسك كلي يوم، وجود شخص محترف يراقب التغيير، والنمو، ويعجل من عملية الاستفادة من المراحل الجديدة تجربة مختلفة، كل ما أستطيع أن أقوله عنها هو أنها غيرت الكثير، وساعدتني على تكوين وعي تجاه سلوكيات، بعضها أردت إيقافه، وبعضها أردت فعله والبدء فيه، فضلا عن نفعها في تأطير الحقوق في العلاقات، وحق النفس تجاه النفس، وحق الفرد تجاه الآخر، ومتى أعرف أنني في موضع تصرفي به خطأ، أو ضرر لنفسي أو لغيري، ومتى أعرف أنني في موضع من  واجبي تجاه نفسي أن أحمي نفسي منه.

 

معاوية الرواحي

الخميس، 26 سبتمبر 2024

هبْداتٌ ذات العواقب!

 

 

لي في تاريخي الرقمي تاريخ طويلٌ يمتد إلى 22 سنةً من الإنتاج شبه اليومي. لا أظنَّ أن يوماً عُمانياً رقمياً يمرُّ بسهولةٍ دون شيءٍ ما من مشاغب الساحة الرقمية القديم. مقالٌ عاصفٌ يجازف بالحوم حول الحمى، أو مجادلات بطائل وبلا طائل، أو هذيانٌ مرضي بلا قيمة حقيقية، أو أيام هادئة من اليوميات، وبين الفينة والأخرى مقال لا بأس به، يطرح قضيةً ما، وعادةٌ ما أدخر المادة الجيدة لجريدة الرؤية، عندما أقرر أن أكتبَ وفق القالب الرصين الذي يفرضه عليَّ المتعارف من قوالب الكتابة. تاريخٌ رقمي مليء بالأخطاء، ومليء بالصواب، وبه من الأدب وقلة الأدب، وبه من الجيد والرديء، وبه من الصواب والخطأ، كأي إنسان، ولكن بشكل منهمر، ويفيض بسرعة وعشوائية أحيانا، أو بدقة موجهة في أحيانٍ أخرى.

ومع هذا التاريخ الطويل، تأتي [هبْداتٌ] كثيرةٌ أتحفت العالمَ بها، هبدات ذات الهلاوس، وهبدات ذات المؤثرات العقلية، وهبدات ذات الظنون، وهبدات ذات الذهان، وهبدات ذات الهوس، اندفاعات كان من الخير أن تحدث في خطابي الداخلي لكنها خرجت وأصبحت ملكاً للعموم الذي أصبح يصنع منها ما يصنع من تأويلات، وافتراضات، بعضها حقائق وتشخيص دقيق لمشاكلي، وبعضها اختصاراتٌ فريق [المستكاودين] بالفطرة الذين يضعون تجربة إنسان برمتها في علبة كبريت ويقررون وضع علامة (=) سهلة توفر عليهم عناء المزيد من البحث، والمزيد من القراءة. فالحقيقة ليست مهمةً بالنسبة لكثيرين، الحكم أهم، ولذلك، لي تاريخ طويل، من الهبدات، والأحكام التي أتلقاها، والأحكام التي أطلقها، ولست بحاجة الآن إلى خوض حيثيات حدوث كل ذلك، لأنني مهما حاولت لم أصل بعد إلى الخلاصة النهائية عن كل ما كان يدور!

وثمَّ من مسيرة عبثية، بوهيمية، عشوائية، وكتابة تتدثرُ بفوضى الأدب، وعبثية حياة الشعراء، والصعاليك، وحياة أساسها الإبداع بقوة الخيال، والانطلاق من تجارب الواقع إلى السرد، وإلى صناعة العوالم الافتراضية البديلة إذا بي أدق بجمجمتي في جدارٍ صعب من جدران الحقيقة، وأصبح طالباً في حرم علم النفس بكل ما به من قداسات، وقوانين صارمة! موقفٌ صعبٌ لنفساني قيد التأسيس، وبدأ التغير في كتاباتي يظهر بجلاء، ويتابعني في ذلك مجموعة من العقول المخلصة في النصيحة، المتخصصة في هذا المجال، وأنا بكل احترامٍ أتتلمذُ، وأجمع بين أيام جهلي العام عندما كان علم النفس وسيلة لتأطير الأشياء، إلى علمي العام المبدئي الذي أصبح علم النفس فيه مجموعة من المهارات، والمعارف، والمقاربات، والتعليم الداخلي، وتعديل آليات التفكير، والبدء في النظر إلى [العلم] نفسه كمنظومة أنتمي إلى تقاليدها، والأهم [قوانينها] والتي ليس من السهل أن أطلق حكما فردانيا عليها، لست الآن وأنا في مرحلة الطاعة الإجبارية لاشتراطات التتلمذ، وإلزامات التجربة التي لا يمكن الخروج من قانونها الصارم، ليس فقط من الجانب النفسي، ولكن أيضا من الجانب العلمي الذي يملأ وجدانك بالذعر، والخوف من الخطأ، وإثبات كل صغيرة وكبيرةٍ، وتثبيت كل تراكمٍ بصياغة محكمة وقانون بحثي عليك أن تقضي عُمرا كاملاً في تعلمه.

أحبُّ الكتابة، وعادةً ما أكتب عن عُمان، وأتقافز من حقلٍ إلى حقلٍ، بين الذات التي أحللها، والآخر الذي كنت أصادمه قبل أن أتخلى عن روح الصدام إلى روح الفهم والتجاوز، وعن مأساوية حياتي في عُمان بكل جدليتها، وعلنيتها والتدمير المتعمد الذي ألحقته بنفسي وأنا في أشد معامعي اندفاعا. وشاء الله أن يصوب قلبي إلى القضية النفسية، والتي أكتب فيها بكل حذر، أراجع نفسي، وأسأل، وأناقش، وأستفسر، وأبحث، وأحاول ألا أضع [هبدةً] عمياء تكلفني ما لا طاقة لي به من الاعتذار المتعب، والاعتراف المر بالخطأ. من السهل أن أعترف بخطئي، لكن أن أخطئ في موضوع نفسي، وأنا أؤمن بالقضية النفسية كناشطٍ يأمل أن يفعل شيئا ما خيرا فيها، هُنا خطئي لن يمر بسهولة، ليس وبعض العقول النفسية الحقيقية تقرأ ما أكتب، ولا تخجل أن تؤنب، وأن تقرِّع، وأن تشير للخطأ بصراحةٍ لا لبس فيها.

وحدث ما كنت أخشاه، ووقعت في الخطأ الجسيم الأوَّل. كنت طالبا في السنة الثانية، ولم أتقن صياغة مقالٍ لي، فكان من المعنى العام أن يخلط بين الشر وبين المرض النفسي، خلطٌ لا يغتفر، كنت في مقال لي اسمه [القتلة الذي يعيشون بيننا] أذكر إحصائية عن الحالات المثبتة إحصائيا عن الأمراض ذات الطابع الخطر! لسبب ما، لحماقة ما، لصياغة ما، لهبدةٍ ما وقعت في الخطأ، وربطت بين المرض والشر، وكأنني فسرت الشر بالمرض، أو فسرت المرض بالشر، وبكل صراحة، كنت أستحق كل ذلك التأنيب، والتوبيخ العلمي الشديد. لا أستطيع وصف جسامة هذا الدرس على نفسي، أدافع عن نفسي بأنني أخطأت في الصياغة، لأكتشف أن خطئي له عواقبٌ أخرى كانت غائبة عن بال طالب يدخل سنته الثانية! قرصة جميلة جدا علمتني المزيد من الحذر، وعلمتني أن أعرض أي تأملات سيكولوجية أكتبها على خبير مختص، وأن أطمئن مرة تلو الأخرى إلى خلوها من مثل ذلك الخطأ الفادح الذي ربطت فيه بين الشر والمرض، والمرض والشر، وكأنني فسرت الشر بالمرض، أو فسرت المرض بالشر، وكان خطئا لم أحسب حسابَه وأنا أمر بمرحلة طالب علم النفس الذي بدأ يجد خيوطا لتأطير الأشياء، خيوطا أولى، سيدرك لاحقا أنها ليست هي الفيصل في القضية النفسية، وأن الإطار، والتشخيص، والأحكام إضطرارات تنظيمية في هذا الحقل، ولا تمثل روح هذا الحقل التي أساسها رخاء الإنسان، وجودة حياته، وصحته، وسلامته، واعتبارات أخرى معقدة وكثيرة لا تختصر سوى في كلمة [الإنسانية] ليست فقط تلك الخيرة والبناءة، ولكن أيضا، الهدامة، والمضرة للنفس وللآخر.

 

كتبت عدة مرات عن الموضوع، موضحا، ومعترفا، لكنني لم أخرج من هذا الدرس الوخيم بلا فوائد، كسرني بعض الشيء هذا الخطأ، لأنني كنت حقاً حسن النية بمعنى الكلمة، أجتهد لأنحتَ مفهوما، أكتشف لاحقا أن هذه الفردانية المفرطة في الأدبية، والشعرية، لا مكان لها عندما يتعلق الأمر بمنظومةٍ بها ما بها، ولها ما لها، وعليها ما عليها، تختلف في أشياء كثيرة لكنها تتفق في شيء واحد، أن الشر شيء، وأن المرض شيء، وأن من المرض ما يقود للشر، وأن بالشر ما يقود للمرض، لكنهما لا يتطابقان، يتمايزان بإشارات وعلامات، واستعجال طالبٍ كان يكتب مقالا استحق عقابَه. كُل ما أشعر به الآن هو انتماء حقيقي للقضية النفسية، انتماء مُتعلمٍ، وطالب، يتتلمذ بلا توقف، ولا يستعجل أن يكون رأيه الخاص، ولا يستعجلُ أن يبني اعتراضه الشخصي، ليس الآن، ليس قبل سنوات ليست بالقصيرة، وحتى وإن حدث ذلك، لن يكونَ سوى في أشياء صغيرة، لا أظنُّ أنني سأجرؤ عن الكتابة عنها خارج السياق المتأمل، المعترف باحتمالية خطئه، الذي يضعُ ما يضعه في سياقه، الشخصي للشخصي، والاجتماعي للاجتماعي، والنفسي للمحتمل من الخطأ. درس لا أتمنى أن يمر به طالب علم نفس، وأتمنى في الوقت نفسه أن يمر به في محيط أصغر من ذلك المحيط العام في مقالٍ منشور في جريدة الرؤية، هل ستحكم صياغة كلامك بعد اليوم؟ هل ستتريث في النشر؟ وهل ستتيقن عندما تصاب بالرمادية بين منطقتين؟ كان خطأً من أخطاء التفسير الفلسفي للحياة، وفي علم النفس هذه [هبدة] لا تغتفر، هبدة ذات عواقب، كتلك [الهبدة] ذات العواقب التي خرجت منها بما يكفي من الانكسار، ورممت بها ما يكفي من الانهمار الحذر في هذا البحر المليء بالتعقيدات.

 

معاوية

 

 

 

 

 

 


سيكولوجي تقريبا!

 من أسوأ الأشياء التي على طالب علم النفس التعايش معها، الفارق في الحقائق التي يدرسها، والواقع الذي يتوقعه البعض. ما الذي يدور في عوالم الجهل العام بعلم النفس؟ تدور أشياء كثيرة.

- التشخيص بالريلات: ريل في الانستجرام يكفي لكي يأتي أحدهم ويشخص الآخر بسهولة بكلمة "شخصية نرجسية".
ولا تقلق، خطأ يقع فيه كثيرون، بما في ذلك الذين يكتشفون هبدهم المبين قبل دراسة علم النفس وبعد دراسته.
تسأله: اضطراب الشخصية النرجسية؟ أم سمات الشخصية النرجسية؟
يبدا يقول لك: شخص متعالي سام للغاية.
تسأله: متعالي على الجميع؟ عدائي مع الجميع؟ سام مع الجميع؟ إلى درجة تؤثر على حياته وتسبب الضرر على نفسه وعلى غيره؟ أم شخص لا يروق لك، ولا تحبه، ولا تحترمه وتعتبر الحبة منه قبة؟
وتبدأ الأسئلة بالانهمار والهطول، ثم تكتشف لماذا الضوابط الصارمة في التشخيص، ولماذا يأخذ وقتا؟ ولماذا التشخيص ليس أهم جزء في المسألة لأن هناك فخ كبير.

ستقول بكل بساطة: هذا يعاني من الشخصية الحدية! وسلام عليكم، وبعدين؟

النفساني يسمع المشكلة لكي يبدأ بعدها في طرق المساعدة، واختيار المقاربة الأفضل، وبناء الملف المتكامل، أما أنت فترمي بالجوكر في الطاولة وتفعل ما يفعله أي جاهل: هذا مريض! وتسكت!

يعني خلاص، ارتحت كذا؟ شخصته إنه مريض؟ وخلاص، كل واحد يروح بيته، أنت قررت بريل الانستجرام الكافي إنه مريض! وماذا بعد؟ تمارس الجهل العام بكل سهولة، لأن كلمة مريض لديك هي نهاية المشوار، النفساني ينظر إلى بداية مشوار، من شخص قد يقرر أنه يحتاج المساعدة، وربما من شخص يرسل نداءات للمساعدة، وهُنا ندخل في تعقيدات فردانية كل حالة على حدة. أما التشخيص، فهو الضرورة القانونية أحيانا، وهو الإطار المبدئي الذي يحتاجه المريض/العميل، وهو محطة بداية الطريق التي قد تتغير (الطريق لا محطة البداية) مع التجربة والجهد والوقت والتطور والانتكاسات وموَّال طويل عريض مدته أطول من ريل تسعين ثانية.

مأزق القولبة والتأطير، لا يمكن النجاة منه بسهولة، يحتاج إلى تدريب حقيقي لك كنفساني، وهو من أصعب مراحل ومساقات علم النفس، وهو الذي يأخذ سنوات وسنوات لتصبح منتجا وبارعا فيه. ولكن هل يمكن إجبار الجميع على رفض الخلاصات السريعة؟ لا يمكن فعل ذلك، لأنه ببساطة لا يمكن فعل ذلك كل إنسان وإرادته الحرة وحقه في اتخاذ المواقف وبنائها سواء كان ذلك دقيق علميا أو اجتماعيا، أو لم يكن دقيقا علميا واجتماعيا، البعض يستمرئ أن يضع حياة إنسان في علبة كبريت، هل سيجتهد للبحث عن الفوارق بين مرض وآخر، ما أن يصل لارتياح أن هذا (مريض) قد قرر مواقفه كلها، تقدر تقول له (لا تفعل ذلك) لا تستطيع، تشاهد، وترصد، وتسمع، وتبني تحليلك، وتتمنى يكون صح وترجع بهلع إلى أحد المختصين وأحد زملائك وأحد الذين لديهم خبرة في المجال وتستخدم تلك التجربة [كدراسة حالة] لتبني منها خيوط استنتاج واستبعاد جديدة.

أي طالب علم نفس لا يعاني فقط من مشكلاته في الانتقال من الجهل الاجتماعي العام إلى العلم التخصصي المبدئي، يعاني أيضا من الذين يطلبون منه المساعدة، أحيانا كل ما عليك فعله هو أن تدله على الشخص المناسب، تعطيه رقم هاتف معالج، وتتمنى أن ينال المساعدة، أحيانا تقوم بدور اجتماعي مليء بالتشجيع، وألا يخشى العلاج، وتقنعه أن يذهب للحصول على المساعدة.
وأحياناً، جملة واحدة تكفيه: هذه المشكلة لها حل، ولها خطة، ولها تدريب يمكن لمعالج مختص أن يعطيك إياه، وبإذن الله ستجد الحل، بس [يحتاج لك تشد حيلك].
وينتهي الموضوع، ويكون لديك شخص متحمس لخوض تجربة الاستشارة النفسية لأنه يتوق إلى (هذا الحل) أحيانا كل ما عليك فعله هو أن تقول: لا توجد عصا سحرية، توجد عملية متكاملة الأركان وأنت أحد أجزائها.

انحياز آخر يمكن أن يحدث للجميع، هو الشعور أنَّ (إصلاح الآخرين) أو (علاجهم) يعني حياة أفضل معهم، السؤال هو: لماذا؟
تقول مقولة شهيرة: لا يزور العيادات النفسية المرضى، بل يزورها ضحاياهم.

وهذه تحتاج إلى وضع ألف خط أسفلها، لأن الشر ليس مرضا بالضرورة، واستخدام كلمة [مريض] لوصف الإنسان الشرير، والمؤذي، أو المجرم هي من أخطاء الفهم المبدئي، وأعترف أنني كنتُ أخلط بين الأمرين إلى فترةٍ قريبة تعرضت فيها إلى توبيخ حقيقي من أحد المعلمين الرئيسيين لي في مجال علم النفس. درس موجع لكن كان يجب أن أخوضه. الشر شيء، والجريمة شيء، وما يعتبر مرضا شيء آخر مختلف تماما، قد يتقاطعان، لكنهما لا يرتبطان ببعضهما البعض بانطباق تام.

ونستخدم هذه الكلمة (ياخي هذا مريض) وينهار السياق، وما الحاجة من الأساس لسياق في الكلام العادي، السياق يحضر في منطقة أخرى لكل كلمة فيها ألف حساب. وهذا المقال لا يخلو من هذا الألف حساب، الذي هو اجتهاد طالب يحاول أن يتأمل شيئا ما في تخصصه و يتمنى بعد أن يعرض ما كتبه على إنسانٍ يفهم أن يكتشف أي خلل جوهري فيه، خلل الطالب الذي لم يتدرب، ولم يبدأ رحلته العملية، وفي حالتي، الطالب الذي من الأساس ينوي مسارا وظيفيا لا مسارا علاجيا في علم النفس.

ورطات طلاب علم النفس كثيرة، لا أستطيع اختصارها، وصعوباتها على النفس كثيرة، أصعبها عدم التدخل في حالة شخص آخر، عندما تكون قادما من منطقة الجهل الاجتماعي لديك امتيازات كثيرة، منها المحاولة، والنصائح، والبحث عن الحلول، وتخرج جزئيا من هذه المنطقة ليتخلق قانون "عرفت فالزم" ترى المشكلة، وتصمت، ولا تستطيع التدخل، وحتى لو كنت طالب شاطر وتعرف التشخيص الدقيق، لن تبوح به، ولن تخبر حتى صاحب الحالة ولو استشارك وستكرر الكلمة نفسها في كل وقت: "ثمة حلول لهذه المشكلة، ابحث عن المعالج أو المستشار النفسي المناسب"

أنت ترى ملامح اضطراب الشخصية الهستيرية، لكن ما أدراك؟ صناعة إطار غير ملزم لحالة لم تصل لأذى كافٍ في حياتها قد يكون هو الأذى الكافي، معضلات تلطم في بعضها البعض، وأنت تبقى كالأخرس في منطقة [عرفت فالزم] وكل يوم يمضي عليك في تخصص علم النفس يحاصرك هذا القانون، ويمنعك من تكوين رأيك الخاص، وتفهم لماذا هذا التراكم العلمي الصارم، وهذه القوانين نشأت، وتتقبل انضمامك إلى النظام النفساني الكبير، وتتفهم لماذا يجب أن يكون هذا نظاما نفسانيا كبيرا. وباختصار، تتواضع أكثر وأكثر وتفهم لماذا أعظم العقول في علم النفس لا تخجل من استشارة ستة أشخاص في جزئية صغيرة.

التشخيص بالريلات، مأزق ضمن سينمائية علم النفس. وكل مرة يطلع لك [تريند] تارة الشخصية النرجسية، وتارةً اضطرابات الانتباه، ثم نعود إلى أفلام السياكوباثيين والسوسيوباثيين والذين لو صادفت واحدا منهم فقط ستفهم لماذا لا يجب عليك أن تستخدم أنموذج التشخيص بالريلات. مجددا أقول "لا يجب" لكن من الذي يجبرك على ما يجب وما لا يجب، هو مجرد رأي، يمكنك أن تأخذ منه إشارة ويمكنك أن تكمل حياتك كما تشاء.

الشيء الذي ينساه البعض، أن عملية علاج المشاكل تحدث ذاتيا، بالخبرة، والتجربة، والنمو. ما تراه إطاراً يعبر عن إنسان، هذا إطار افتراضي، مصمم للفهم، وللتأطير، وللتنظيم عمليات العلاج والتشخيص لكنه قطعا لا ينفي النمو الذاتي، والعلاج الذاتي، والتأقلم، بل وربما إيجاد الحلول الجذرية لمشكلة متأصلة في نفس فرد، ماذا ستفعل هنا أنت والريل الانستجرامي العجيب؟ ستصر على تطبيق إطارك؟

لا أعرف ما الذي سيحمله علم النفس من خلاصات في قادم الطريق، ولا أعرف ما الذي سأراه خطأ في هذا المقال، الذي أعرفه أنني سأكتب هذه التجربة وتطورها حتى نهاية المشوار، وبعدها، سأختار أي شيء سوى عالم الأمراض، علم النفس أوسع من هذا الجانب لكن لسبب ما ثمة شيء اجتماعي يجعلنا تلقائيا نفكر في جوانبه المَرَضِيَّة وننسى جوانبه المُرْضِيَة .. سبب ما أتمنى يوما ما أن أفهمه فهما علميا بدلا من الضرب العشوائي في مناطق الجهل العام وجهلي الشخصي الذي أمام سنوات لمحاربته بالدراسة.

وسلام عليكم

الأربعاء، 25 سبتمبر 2024

بناء الحدود

 بناء الحدود، سؤال عويص من أسئلة نمو الشخصية. من أسئلة التجاوز، ومن معضلات التعامل مع البشر. الناس أنواع، منهم شخصيات اقتحامية بالفطرة، كذلك الرجل الذي تلتقي به للمرة الأولى فيسألك كم راتبك؟ وأين تعمل؟ وماذا تفعل في وقت فراغك؟ وما علاقتك بفلان!

وجود الشخصيات الاقتحامية شيء، التعامل معها شيء آخر. والمعضلة هي ما هو واجبك تجاه نفسك، وما هي الحدود التي يجب عليك بناءَها لكي لا تدخل في حالات من القلق الشديد لأنك لم تحكم بناء المحيط الذي يضمن لك عدم اقتحام شخص لمساحتك، أو دخوله العفوي وهو يظنُّ أن الأمر لديك "عادي جدا" هذا يحدث كثيرا، ويتكرر، ابتداء من فرد عائلتك الذي يظنُّ أن أخذه لمفاتيح سيارتك وذهابه بها لمشوار سريع شيء "عادي لديك" لكن في الحقيقة أنتَ في داخلك تشعر بالغيظ، لكنك لا تتصرف، وبالتالي تصنع لنفسك قلقاً لاحقا قد ينتهي بك إلى توتر لا داعي له.
ليست مهمتك تغيير طبائع الآخرين، الإنسان الاقتحامي سيبقى هكذا اقتحاميا، سواء زميل عملك الفضولي الذي لا يتوقف عن توجيه الأسئلة الخاصة، أو أخوك الذي يأخذ ملابسك الرياضية بدون إذنك، مهمتك أن تبني الحدود الواضحة بينك وبين الآخرين. هذا واجبك تجاه نفسك، ولكن السؤال! ماذا عن العلاقات التي من الأساس كانت الحدود فيها غير واضحة، وقطعت شوطاً طويلا للغاية بهذا الشكل.

هُنا تأتي المعضلات، أن تبني حدوداً متأخرةً قد يشعر البعض أنك تغيرت عليه، وأنَّك صرت لا تعبأ به، وربما أخوك الذي لم يعد يجد مفتاح السيارة مرميا في الرفوف التي بجانب باب البيت الكبير أصبح الآن يشعر تجاهك بمشاعر من الغيظ، من الاقتحام يأتي الاستحقاق، ومع سحب الاستحقاق تأتي ضغينةٌ صغيرةٌ قد لا تكون مهمة للغاية، لكنها لا تخلو من شعور بالحرقة! هو نفسه ذلك الزميل الفضولي في المكتب الذي كنت تحكي له عن سفرك، وتحكي له عن مغامراتك في عوالم الطيران الشراعي ثمَّ فجأة شعرت أنه إنسان اقتحامي، لا يحترم الحدود فنكصت على عقبيك وتوقفت عن تلك الثرثرة الزائدة عن الحد.

لا يحل كل شيء بالثورات، والصدامات، والكراهية، والحساسيات المؤبدة، بعض الأشياء تحل بالوقت وبالتفاهم. أن تصنع حدوداً هذا من واجبك تجاه نفسك، قبل أن تلوم الآخرين، قبل أن تصنع كمية كبيرة من الشماعات التي تعلِّق عليها مسؤولية اختياراتك. وهو جزء من النمو الدائم للشخصية، جزء من عملية الإصلاح والترميم، ولا يتوقف، وحتى هذه الحدود التي تبنيها، تحتاج إلى إحكام دقيق، هل هي حواجز؟ أم حدود؟ هل هي مرئية ومتفق عليها؟ أم هي واضحة من طرف واحد؟ هل تبوح بها؟ هل تقولها؟ هل تضعها في مقدمة العلاقات، ولا سيما تلك العلاقات الرسمية كمحيط العمل؟ أو تلك المؤقتة التي تحدث في التعاقدات التجارية.

وللحلول مشكلات، وليس من السهل إن كنت إنسانا ذا طبيعة عاطفية مليئة بالبوح، وربما لديك مشكلة في السعي لإرضاء الجميع، وفوق ذلك تاريخ ما من الصدمات، والفقد، ولنقل الحدية في التعامل، كل هذه عوامل تجعل بناء الحدود أمرا عويصا عليك. هُنا يُحمد العلاج النفسي، ليس لأنك مريض، لكن لأنك بحاجة إلى إرشاد يخبرك، لماذا كنتَ تتنازل عن حدودك؟ ومتى تتوقف عن بنائها؟ قد تصل إلى هذه الخلاصات بنفسك، وقد تأخذ جلستين مع الأخصائي النفسي الذي سيشرح لك الطريقة الصحية لبناء الحدود، وقد يدلك على المقال الذي تحتاج إلى قراءته لتعرف، أن بناء الحدود ليس أمرا معقدا، وليس تحديا عويصا، وأن تدريبات متتالية على التعايش مع الظروف والمواقف قد تجنبك ذلك الحرج، ولا سيما إن كنت أنت الشخصية الاقتحامية، التي تتعرض لمواقف محرجة، أو التي تبقى دائما في حالة من الضيق الشديد وتتساءل: لماذا لا ينصفني الناس!

بناء الحدود يبدأ من إدراكها، ومعاملة الآخرين بها، يبني حدودك تلقائيا، هذه بداية جيدة، ومنها تتكفل التجربة بتجويد تصرفاتك التي كنت تظن بهلع أنَّه لا يمكنك النجاة منها حتى كدت أن تضع علامة [=] لتقول أن تصرفاتك تلك هي أنت!

كل ما يمكن تغييره ليس أنت، هو أنت في مرحلة ما، وثمة [أنتَ] جديد دائما تسعى إليه، وستبقى دائما تسعى إليه حتى تحقق أفضل نسخة ممكنة تسمح لك الحياة أن تكونها.

معاوية

الثلاثاء، 24 سبتمبر 2024

حكاية طالب في الأربعين!

 

 

 

قبل عامين من الآن:

 

مهموم. لم ينم معظم الليل. يفكِّر بلا توقف. الساعة الثانية صباحاً، والفجر يقتربُ. يبحثُ في الهاتفِ عن صديقٍ يطوي ساعات الليل. مهموم آخر ربما! إنسانٌ يؤنس وحشة القلق. يردُّ بجملة: أنا سهران! ويحدث اللقاء.

أشرحُ له بضيق بالغٍ ما كنت أسمِّيه "لعنة الشهادة" يقترحُ لي الحلول العديدة، والجامعات التي يمكنك أنْ تنجز فيها هذا الشأن، شأن المؤهل. يستفسر مني عن السبب الذي يدفع بي إلى التفكير الملح في هذا الأمر، ألم تؤسس مشروعك التجاري؟ ألا تكسب مالا لا بأس به؟ لماذا يشغلك الموضوع؟ أشرحُ له باستفاضة، عن الفرص التي تضيع، وعن الدهشة التي تعلو وجوه البعض عندما أجيبه عن مؤهلي "الثانوية العامَّة" وكأنَّ صدمةً ما تعلو الوجوه، واستغرابا عن خيارات حياة هذا الإنسان. أشرحُ له ووجهه يتلوَّن معي، ويتفاعل مع همومي التي كنت أغدقها عليه بلا توقف.

يصمت الحديث، يفهم معي الخلاصةُ التي وصلتُ لها. أشرحُ له موضوع التخصص، إلى متى سأبقى أتنقل بشكل عشوائي بين المعارف؟ أقفزُ من فضولٍ إلى آخر، ومن حقلٍ إلى آخر. أخبره عن شغفي القديم بعلمِ النفس، والسنة التي درستها من قبل، والطمأنينة التي وجدتها، وبعد العودة لعُمان، الأسئلة المحيرة تعود، ولا أعرف كلية تقدم هذا التخصص إلا كلية واحدة! هذه الكلية التي أدرسُ فيها الآن. يفكرُ معي، ويقول بهدوء: يبدو أنك حسمت قرارك، وحسمت اختيارك، لماذا تؤجل البدء؟

أجيب بلغة المسلم بالأمر الواقع: أربع سنوات! ثلاث على الأقل مع معادلة المواد! والآن! في منتصف كل هذه الأشياء الجيدة التي تحدث، وأذهب للدراسة؟ بما فيها من التزام، وما فيها من انشغال بالحضور، وأيضا بما بعد الحضور؟ قرارٌ كبيرٌ، ولا أعرف هل أتخذه أم لا! حسبتُ أنني حسمت الأمر من قبل، وأن أبقى متعلما ذاتياً طوال العمر الباقي، ما بالي وبال الجامعات، والحضور، والغياب، وفي هذا العُمر!

ينفق ساعتين في إقناعي، أنَّ الوقتَ سيفوت هكذا أو هكذا، يتحمَّسُ في الشرح، يخرجُ من الخطاب الذي يوجهه لي إلى خطابه الذاتي، وكأنه يكلِّم نفسه، ثُمَّ في نهاية الحديث، قررتُ أن أبدأ السعي، واقتنعت بكلامِه، ولكنَّ كلامه لم ينتهي. يقول لي: إن بدأت، سأبدأ معك! ما أن تتيسر ظروف عملي التجاري، وتمنحني الوقت! العمل التجاري! يمنحك وقتا! وهمٌ كنت أؤمن به ذاتَ يوم حتى لقنني هذا الذي يسمى "عالم البزنس" الدرس وراء الآخر، وقت! في التجارة! لا بد أنَّك واهم، وتصدق هؤلاء الذين يقولون لك "ستكون أنت مديرك" سيكون العمل مديرك، واحتياجاته هي سيدة قراراتك، وقته هو الذي يحدد وقتك، وهذا ما حدث لصاحبي الذي أقنعني أن أبدأ بإجراءات التسجيل، ووعدني أن يبدأ الدراسة معي.

أسجل في الكلية، أطوف إلى جميع الجامعات التي درست فيها، أجمع المواد التي درستها بنجاح، أعادلُ المواد، أستبشر خيرا ببداية مرحلة جديدة، ليست فقط طريقا للمؤهل الجامعي، هي أيضا طريق للتخصص، واختيار المجال الذي أقضي فيه بقية العُمر. أعود إلى صاحبي: ألم تقنعني أنت نفسك بأنَّ الدراسة لا مهرب منها؟ أين أنت؟

يجيب: لم أجد وقتاً بعد! عسى في الفصل القادم!

مزحة الفصل القادم، هذه التي حضرت في كل لقاءاتنا بعدها، وابتسامة الحرج التي تعلو محياه. متى ستسجل؟ الفصل القادم! وهكذا دواليك. ويمرُّ عامٌ كاملٌ.

أحكي له عن عالم الدراسة الجديد، وإمكاناته، ومصادره، ونحن الذين درسنا قبل سنواتٍ طويلة عندما كانت المعلومة شحيحةً، ولم يكن هناك إنترنت، ولا شاشات لمس، ولا هواتف يمكنها أن تحمل تطبيقا به كل المواد الدراسية، كل شيء تغير. في كل لقاء أذكره بوعده: أقنعتني أن أكمل دراستي، ووعدتني أن تبدأ أنت أيضا، أين أنت. ابتسامة الحرجة التي كانت تعلو محياه أصبحت ابتسامة حسرة: أنتظر عملي التجاري أن يسمح لي بالتنفس!

لم أعد أعبأ بعملي التجاري، ولا بالمكاسب المالية، ولا بالإعلانات، ما أن يتوفر ما يكفي لاستدامة الحياة الكريمة لي ولأسرتي، كل ذلك المال الزائد غير مهم، المهم هو ساعات الجلوس إلى علم النفس، إلى اكتشاف البحور الجديدة التي أمامي، إلى الإصغاء إلى النداء النفسي الذي سأذهب إليه، تتغير الخطط، ويمر الفصل الثالث، وأنا أسأل صاحبي: أين أنت يا رجل، لقد توقفت عن إخبار الأصدقاء أنك من أقنعني أن أبدأ في التسجيل، أخبره عن حصولي على معدلٍ عالٍ، وعلى وجود اسمي في لوحة الشرف في الكلية، والذي أصبح في وجهه هو شعورٌ آخر، بأنَّه تأخر كثيرا، ثلاثة فصول، وهو ينتظر السانحة التي تسمح له أيضا بالعودة للدراسة.

ويمرُّ عامان، وأقطع نصف المشوار، بقيت ثلاثة فصول، وبعدها! ماذا؟ "أتخرج" لم أعد أذكر الصديق بعهده ووعده، أن نعود للدراسة الجامعية معاً، لم يخلُ اللقاء من الشعور بالخيبة، وضياع الوعد، وفوات الوقت! وقبل أسبوعين تحديداً، يتصل بي: لقد سجلتُ!

نعم! سجلت أين؟ سجلتُ في الكلية!

هل تتحدث بجدية؟

نعم أتحدث بجدية تامَّة!

أي اتخصص اخترت، يبتسم: التخصص الذي اتفقنا أن ندرسه معا!

 

وكأن الحكاية تكتمل! أن تنقلب الآيات، أن تصبح أنت السابق للشخص الذي شجعك على الدراسة، وأن تدين لصديقٍ ما بلحظة إيمانٍ بك، وتشجيع لك، يحثك حثاً، ويتصل بك ليسأل: هل سجلت؟ هل ستنطلق حقا؟ عامان من الانتظار، وتتحقق النبوءة، ويصبح زميلاً، وأجد صديقا عزيزاً يكمل معي عامين في هذه الكلية التي أحبها بشدة، وهذا القسم الذي كل يوم يدهشني، كما يدهشني هذا الحقل العلمي بقدرته على إحداث التغيير. لم تعد الحكاية مجرد تخصص، وشهادة، أصبحت الآن حكاية أصدقاء، قطعا على أنفسهما وعداً، والآن يكملان تلك الخطة الصغيرة التي نشأت وتبلورت في واجهة الماء في القرم، وأصبحت اليوم نصف مشوار، وذكريات لعلنا حين نتجاوز أعوامها، سنقول: لقد اتخذنا القرار المناسب. وفقنا الله في طريق العلم، وأنار لنا الطريق، ورزقنا أن نكون نافعين لأنفسنا، ولأهلنا، وللناس.

 

 

 

 

السبت، 21 سبتمبر 2024

بيان من معاوية الرواحي إلى فريق ميزان:

أعتذر على مخالفتي لقانون العمل في في فريق ميزان، وقيامي بأداء مهمات تخص العمل في يوم إجازتي الإجبارية. لقد كانت الإجازة فرصة لي لمراجعة الذات، وإعادة النظر في الالتزامات التي قدمتها باسم ميزان. كوني رجل ميزان في الميدان، والمسؤول الأول عن التعاقدات، وجدت أنني لن أستطيع تحملّ القلق الناتج عن إخفاقنا في أداء التزام لعميل جديد ومهم، فضلا عن كون مالك العمل صديق طفولة قديم، ولذلك ارتأيت أن أعمل في يوم إجازتي. إنني وإذ أقدم اعتذاري لكم، أتعهد لكم بأن أخطط بشكل أفضل، وأن أتحمل مسؤولية خياراتي، وأنا أقبل بالجزاء الذي يقرره فريق ميزان نتيجة مخالفتي قانون الإجازة الإجبارية. أعلم جيدا أن هذا القانون يهدف إلى إعطاء كل فرد في ميزان فرصةً للتفكير، والهدوء، ليعود للعمل بروح مبدعة، مليئة بالعطاء، بعد راحة مستحقة. ولكنني دفاعا عن نفسي أقول: إن القلق الذي كنت أعيشه نتيجة تأجيل هذا الشعور المرير بالخطأ كان سيجعل إجازتي جحيما، وسيجعل تأجيلي للقرار الذي اتخذته بتحمل المسؤولية مفسدا لإجازتي. قيمت الوضع وقررت مخالفة قانونكم، وأعتذر على ذلك، وأعدكم بأن أفعل ما بوسعي للسيطرة على قلقي، ولتخطيط عملي بشكل معقول يمنع تكرار هذه الحوادث المؤسفة التي تضر فريق ميزان، وتؤثر على سمعته في السوق، وتفسد مشاعر العملاء الجدد الذين كانوا يأمنون جانبنا ويعلمون أن ميزان فريق يلتزم بالمواعيد. أكرر اعتذاري، وأتعهد أن أبدأ بإيجاد حلول حقيقية لطريقتي الخاطئة في العمل، المليئة بالقلق، والتي تسبب خمولا، ومشاكل متعددة بسبب إرهاق نفسي فوق طاقتها، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وقال أيضا "وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان" .. وعملا بهذا المبدأ القرآن، آثرت مخالفة إجازتي، وسيكون اليوم يوم عمل، وسأتخذ إجازةً أخرى ترونها مناسبة بما لا يخلُّ بالتزامات وجدولة أعمال ميزان. احترامي الشديد لكم، ولرعايتكم لحقوق الإنسان في ميزان، وحقوق الموظف، وساعات عمله، وبإذن الله سأحاول (لا أعد) سأحاول عدم تكرار هذه الانزحاطة، أسأل الله التوفيق لي ولكم. تحياتي: معاوية الرواحي 

مؤسس فريق ميزان الخارج عن السيطرة 

الأربعاء، 18 سبتمبر 2024

الجريمة مزيفة والعقاب حقيقي

 

 

 

إلى أي درجة كبشر نذهب في الدفاع عن موقفنا، وعن أخطائنا؟ تقدم التجربة العامة لجميع البشر في هذا الكوكب العجيب شكلاً متشابهاً من التجارب عندما يتعلق الأمر بالخطأ! ابتداءً من الموقف الواضح السهل. سين، يخطئ في حق صاد، يعتذر سين، يوضح أسبابه، ويتعهد بعدم تكراره، يطرح فكرة التعويض، ويوضحُ مسار الطريق الذي يصنع الطمأنينة في الطرف صاد. وانتهت الحكاية، وأخذت شكلها البسيط، والذي قد يتعقد ويأتي بصورة مغايرة.

 

 سين يخطئ في حق صاد، يبتكر صاد مختلف الأعذار، يأتي بهيئة معتذر لكنه حقا لا يعتذر، وكأنه يقول لصاد، هذا أقصى ما لدي، تصرَّف واقبل حدود كبريائي التي تسمح لي بالاعتذار. لقد جئت (لأخبرك فقط) أنني سامحت نفسي على خطئي، وأنني أخطأت لأنني قررت ذلك، أما أنت فلا تلمني (أنا لا أُلام) وعليك أن تقبل هذا الوضع، فكرة أن يكون لصاد موقف مضاد تعني بالضرورة أنَّ أصبح فجأة مخطئا، وتتعقد المسألة كلما ذهب سين إلى تبرير الخطأ ولوم ردة الفعل وكأنه خطأ جديد في حد ذاته، وهكذا تفسد العلاقات بين الناس للأبد، طرفٌ يقول: "لقد اعتذرت، ما به هذا!" والطرف الثاني يقول: "هل حقا يظن أنه اعتذر، ما به هذا" وفي غياهب الغموض، تصنع العداوات، وتفسد الصداقات ونتعلم كبشر تجارب الحياة المختلفة، وقد نكون مكان سين، أو نكون مكان صاد، ومن التجربتين سوف نتعلم.

 

عندما تخرج الأشياء عن كونها تحدث بين شخصين، إلى حدوثها في محيطٍ عامٍّ كبير، هُنا يكون الكون طرفا ثالثا في الخصومة بين طرفين، الكون ممثلا بالمجتمع، أو بالجنس البشري كاملا، ممثلا بعائلة، أو قبيلة، أو قرية، أو مدينة، أو جهة عمل، أو مؤسسة دراسية. يحدث الخطأ علنا، يعلم عنه الجميع، طالب يخطئ في حق معلمه، أو معلم يخطئ في حق طالبه، يعتذر من أدرك خطأه، ويتقبل الطرف الثاني الخطأ، وتنشأ حكاية اجتماعية حقيقية: الفلانان قاما بحل الخلاف بينهما. زميلا العمل حلَّا الخلاف بينهما؟ ماذا حدث؟ أخطأ فلان، وأدرك خطأه واعتذر. ماذا فعل الطرف الثاني؟ قبل الاعتذار، وكما يقولون: سقط الحطب من سماء الكون وأصبح رمادا.

 

هل التعاملات البشرية تكون بهذه السهولة؟ ليت وألف ليت، وإلا كنا سنعيش حقا في المدينة الفاضلة التي يحلم بها الفلاسفة والرومانسيون. عندما يكون المجتمع طرفا ثالثاً في الخصومة بين طرفين، عائلتين، هُنا تبدأ حروب السرديات، والسرديات المضادة. سلوك شائع يقوم به الناس، وقد يقوم به الفرد الذي لم يحسم ملف خصومة معلَّقة. سردية الابن الضال، سردية الزوج المقصر، سردية الموظف الساخط، سردية جهة العَمل الظالمة، سردية السجَّان المخالف للقانون، سردية الخصم هو الذي بدأ. هُنا يأخذ صراع السرديات شكلا اجتماعياً لا يخلو من الافتراء، والقبح، والمكابرة، والظلم، بل والصراع وتحطيم المصداقية، وقد يتجاوز ذلك إلى ما يتحول إلى معركة بقاء، نهاياتها مروَّعة في حالات كلها بدأت من خلاف عائلي تحول إلى مهرجان مسلح بين قبيلتين، والسبب في ذلك؟ صناعة السرديات التي تكفي لحرف مسار التاريخ المصغر لفردٍ أو عائلة، أو قبيلة!

 

صناعةُ السرديات سلوك نفعله كأفراد، ونساق وراءه كأعضاء في جماعة، قد يفعله قائد جماعة يدير مصالحها، وقد يفعله فردٌ تجاه جماعة تنصل من مبادئها الجمعية. العالم مليء بالسرديات السياسية، ونحن أيضا لا نخلو من تصديق أحدها بشكلٍ ما أو بآخر. تُسمى السردية بذلك لأنها من شؤون السرد، من شؤون صناعة الحدث الخيالي، وهذا الحدث يأتي مع تفسيراته، هذا ما يحدث في العالم الكبير والمعقد، ماذا عن عالمنا الصغير؟ ألا نتقبل أحيانا صناعة سرديات صغيرة ترفع عنا الحرج الاجتماعي؟

تقصر في شأن حيوان أليف فيموت؟ تصنع سرديةً أنَّ كلاب الجيران قد هاجمته! يبدو كل ذلك بريئا أليس كذلك؟ نعم، حتى اجتماع جمعية الجيران، وتجدُ أحد جيرانك يلطمك بسرديتك، في حضور الجار صاحب الكلاب، وهنا تتعقد الأشياء، وتجد خصماً شرساً سيحاربك دائما، وتخسر جارَك لأنه أمام عينيه لا يراك إنسانا تدافع عن قطةً نسيت وضع الطعام لها، أو نسيت فتح الباب لها فماتت في الشمس، خطأ قد يحدث لأي إنسان، أنت هُنا جارٌ شانئ، يخترع الإشاعات، وكسبت دون أن تدري عداوة فقط لأن السردية التي أردت منها أن ترفع عنك حرج كونك مربي حيوانات أليفة رديء، أصبحت جارا رديئا كذاباً ولديه جار صاحب كلاب يكره رؤيته لأنه أشاع عنه أنه مربي كلاب غير مسؤول، وبهذه الطريقة، رميت اللوم على غيرك وأنت لا تعرف حجم المصائب التي صنعتها لنفسك ولصورتك الاجتماعية.

لعبة السرديات في العلاقات سلاحٌ خطر للغاية، وعندما يكون المجتمع طرفا ثالثا فيها، فهنا منشأ حروب. السردية البريئة التي تتمنى بها أن يخفف عنك اللوم، تصنع لك عداوة عنيفة وأنت لا تدري، والسردية المحكمة قد ترفع عنك عداوةً أخرى. جارك السكران، يخطئ فيصدم سيارتك، هل أنت ملزم أن تقول الحقيقة؟ جارك جاء، واعتذر، وصوت الاصطدام ليلا والجيران الذين أطلوا برؤوسهم من النوافذ عرفوا بالحادث، لم يعرفوا بتفاصيله. هل ستذهب وتفضحهم عند الجميع؟ سيخترع هو سردية أنَّ السيارة تعطلت، وأنت ستؤيد هذه السردية من باب الستر، وانتهى الكلام، من يهتم بصناعة نمائم اجتماعية من مكافح تالفة قادت لحادث بين جارين كلاهما تفاهم مع بعضه البعض، هكذا تُخمد التأويلات، والإشاعات، ويحدث الستر! وقد يحدث الموقف الغبي بتضاد السرديات فيعلم عقلٌ فضولي أنَّه ثمة خطبٌ بين الجارين، ولذلك يسمع أحدهما أشاعة أن جارا حاول دهس جارٍ آخر، لا تصب بالدهشة أن الذي فعل ذلك إنسان بريء للغاية شعر أن تضارب السرديات بين الجارين معناه خطب جلل، وأكمل بخياله الباقي، وانتقلت حكاية الجار السكران الذي قام بإصلاح سيارة جاره إلى جارٍ يضمر الضغينة للجيران، وعندما تسير الإشاعة في تخوم القرية الصغيرة، يضرب الفرد الأخماس في الأسداس عن حب الناس للإشاعات! بعض الإشاعات ليست مبتكرة لأنها مستهدفة في حد ذاتها، بعضها نتيجة سرديات غير محكمة، وهذه نتائج التلاعب بالسرديات أمام العقول الممحصة.

السردية الأخيرة التي بها عنوان هذا المقال، ما يحدث عندما يتم لصق تهمة اجتماعية بإنسان يتلقاها بصدر رحب، ربما ليدافع عن شخص آخر. نعرف كيف يدافع الإنسان عن نفسه بصناعة سردية تؤذي إنسانا آخر، فما بالك لو كان هذا الشخص الآخر يساهم في صناعة هذه السردية، لأنه يبرئ ظالمه بشكل ما أو بآخر، الجريمة مزيفة، والعقاب حقيقي، وثمة شيء بنا كبشر يجعلنا نجتمع على عقاب شخص قررت الظروف أن سرديةً ما يجب أن تنسج بشأنه، الفتاة التي تلصق القسوة في أبيها، بينما الحقيقة أنها في حالة غضب قفزت عليه بسكين فضربها، أو العكس صحيح، الأب الذي صنع سردية الطفلة الضالة، والحقيقة أنه في حالةِ سكر هجم عليها بسلاح فضربته! هُنا تصنع السرديات المزيفة بإتقانٍ، وتقدم القرابين لأفواه الناس التي تحب أن تنهش هذه الأخبار، والعلوم، وما يمكن تداوله من أحكام عن حياة الآخرين الخاصَّة.

 

ما هدفي من هذا المقال عزيزي القارئ؟ هدفي أن أسلط الضوء على كائن سردي يتكاثر في العقول كالفيروس، أن تفسيرك وعذرك الذي يبدو لك بسيطا ولا ينتقلُ، له نسخة أخرى في نسختك الجمعية في أذهان الآخرين. إن لم تستطع أن تحكم السرديات البيضاء، البريئة، كحكاية الجارين، قد تجد نفسك ظالما أو مظلوما، ظالماً في سردية تبتكرها أمام طرف أضعف منك، تصنع جريمة مزيفة عقوبتها حقيقية، أو مظلوما لأن السرديات تلاحقك من قبل طرف غاشمٍ لن يعترف أنه أخطأ، يحتاج إلى قربان يفسر ما حدث، قربان يفسر ردات فعله غير المنطقية، وهكذا تنتهي الحياة الاجتماعية لإنسان، بسبب سردية، وبسبب الطبيعة البشرية، فإن لم تكن قادرا على عيش حياة السرديات، والسرديات المضادة، عليك أن تدرك لماذا الصدق رغم صعوبته منجاة، هذه إحدى ملامح النجاة بالصدق، الذي رغم صعوبته، لا يصنع نسخا مزيفة عديدة من سرديات التأويل، أو إكمال النموذج الغائب، الوضوح حياة صعبة، الأصعب منها أن تكون شبحاً يصنع في سرد الغرباء وخيالهم، هذه حقا حياة لا تطاق!

 

 

 

معاوية الرواحي

 

 

 

 

 

أأ