للخصومة الفكرية مع خصم على قيد الحياة قانونٌ
وأعراف. قد تكون منصفاً وعلى قدرٍ عالٍ من الموضوعية لتبقي هذه الخصومة فكريةً.
وقد تفقد قدرتك على لجم عواطفك فتأخذ خصومتك إلى عالم الشخصنة. وخصمٌ تعرفه، ولا
يعرفك يختلف عن خصم تعرفه ويعرفك. والتصنيف الأوَّل هو الذي يجمعني مع تشارلي كيرك
الذي عاد لخالقِه باغتيالٍ لا يمكن أن يوصف سوى بالصادم، والمروَع. وتتصاعد طبقات
الصدمة إذ يحدث ذلك في تلك الدولة التي ظنَّ العالمُ بها طويلا أنها منبر الحريات،
وحافظت على قداسةِ التعبير عن الرأي حتى جاء هذا الزمان الأمريكي الغريب، وحدث
ترامب، وحدث بايدن، وحدثت غزوات بني ليبرالي، وانشطرَت أمريكا إلى قسمين.
بدأت بمتابعة تشارلي كيرك مع سطوع نجوميته.
كان ذلك الضيف الذي يمر على المواد الفيروسية التي تجود بها خوارزميات المنصات
الرقمية الإدمانية كالانستجرام. متحدثٌ مفوَّه، مسيحي، مؤمن بالدين، يدافع عنه، لا
يشرب، وينادي بكثير من القيم المحافظة التي لا تخلو من جماليات تحتاجها الولايات
المتحدة الأمريكية، جماليات مثل العائلة، ومثل حق الاختيار. وعندما أقول جماليات،
لست هُنا لأتفق معه في مصدرها، فنهايات أفكاره تذهب أيضا لإلغاء فلسطين، والدفاع
المستميت عن إسرائيل، وبقدر ما هو في الواقع إنسان غاية في اللطف، والتهذيب، ولا
يخلو من كونه خجولا يحب ويريد الخير للناس، هناك كائن سياسي، ميكافيللي، يخطط،
يحشد الحشود، ولعله كان نجماً صاعدا في سماء المحافظين الأمريكيين، ولم أكن
لأستبعد أن يكون مشروع سيناتور وربما رئيسا أمريكيا بعد أن ينضج في فرنِ المؤسسة
السياسية الأمريكية.
كان تشارلي كيرك بالنسبة لي بديلا تعليميا
رائعا في فن المجادلات، والحلم والصبر، والقدرة على ضبط النفس، ما عدا حوادث نادرة
بسيطة جدا عندما كان يصرخ دفاعا عن نفسه أنه يعيش كرأسمالي بشكل حقيقي. يطوف من
مكان لمكان، يتحدى طلاب الجامعات ولا سيما من اليسار الليبرالي العجائبي الذي غير
خارطة الحريات في أمريكا، والعالم، وصنع كُل الأجندات التي تصيب العالم بالقلق على
ما تفعله أمريكا ثقافيا بنفسها وبالعالم. يبقى أولا وأخيرا، صاحب رأي، ولذلك لا تجد
غضاضةً أن تكره ميكافيليته، وكإنسان بعيد ولستَ أمريكيا، ستجد مادةً أفضل من فجاجة
بن شابيرو وإلغائيته، وغيرهم من النموذج نفسه من نشطاء اليمين المحافظ أو من
المستحيل تصنيفهم مثل مايلو يانابولس. بالنسبة لتشارلي كيرك، هو مسيحي يستخدم
المحاججة السياسية، ولا يخلو من علمانية عميقة تكاد تختفي سياسيا إلا عندما يبرر
مواقفه الأخرى كموقفه ضد الإجهاض. ظاهرة صحيةً يمثلها محليا داخل المجتمع الأمريكي
بيساره الغريب الجديد، وظاهرة مفزعة على الصعيد العربي العالمي والصدام الإسرائيلي
الفلسطيني بكل ما فيه من تبرير، وتجنب تامٍّ لأي إدانة أخلاقية أو قانونية لما
تفعله إسرائيل من جرائم لا حصر لها.
عندما وصلني الخبر كان ناقصا! كان يشي
بمحاولةٍ لإيذائه، وبخاصية التعجل المعرفي وإكمال النموذج ظننت أنه صدام جسدي بينه
وبين غاضب من الطلاب الغاضبين! بعد عودتي للمنزل يتضح لي أنَّ تشارلي كيرك قد مات
حقَّا. وكم من المشاعر الغريبة حقا التي يصاب بها المرء بعد خبر وفاة إنسان كل ما
فعله هو "النطق بآرائه" وأين يحدث ذلك؟ في الولايات المتحدة الأمريكية؟
المتشنجة في تعديلات الدستور، وحمل السلاح، وحرية التعبير، وحرية اعتناق الدين! لا
أعرف لماذا أصبح الأمر غريباً، الشخص نفسه الذي كنت أكره سحنة وجهه عندما يظهر
بتلك الابتسامة المتعجرفة، ذلك الشخص الذي كنت أشعر بالحبور للإحراج الذي تعرض له في
مناظراته في جامعة أكسفورد أصبح لسبب ما أو لآخر إنسانا يستحق أن أذكره باحترام
ما، احترام غريب حيال إنسان ماتَ مؤمنا بفكرته، حتى وإن كنت تكفر بفكرته، حتى وإن
كان ما كان من يمين أو يسار. الذي قتل هو صاحب رأي، قبل أن يكون يمينيا وقبل أن
يكون يساريا.
الجدال الفلسفي حول علاقة الآراء بالأفعال لا
يتوقف. لم يكن تشارلي كيرك بريئا، ولم تكن مواقفه السياسية تستحق أي احترام إنساني
رغم جماليات طرحه عندما يتعلق الأمر بحياة الأمريكيين، وحق المحافظين في الحياة
وفق مبادئهم ووفق دينهم. ولا يخلو كل من آمن بالمشروع الليبرالي من شعور عارم
بالخيبة على ما آل إليه الحال من تشويه للحقائق، ومن تشويش لحياة البشر، بنظام
شمولي رقابي يجعلك تتساءل، هل هذا هو اليسار الذي بقي لسنوات تحت بطش المحافظين
واليمين؟ اليوم تنقلب الآيات وتخرج لنا الدروس والعبر لتثبت لنا أن الأيام دول.
لم يقد تشارلي كيرك عصابات مسلحة، ولم يحمل
معه سوى ذهنه، وفريق إعلامي، ومشروع سياسي، وربما إن واصل طريقه المحافظ للنهاية
كان سيكون نفسه الرئيس الأمريكي الذي يوقع أوامر الموت والقتل لجيش دولة قتل
الملايين، واحتل دولا، وأباد قرى، بل وكان من الفجاجة بمكان أن يحتل دولةً نتيجة
أخبار هشّة عن أسلحة غير موجودة! وما خفي أعظم بلا شك، ولكن لا جدوى من تخيل ما
خفي وظاهره لا يقول أي شيء عنه.
مات تشارلي كيرك، ولست أفهم ما الذي تغير بي
تجاهه. خفتت الكراهية وحلَّ معها شعور بالتعاطف مع ضحية اغتيال غادر. تشارلي كيرك
الذي كنت أكره ابتسامته المزعجة أصبح اليوم قتيل رأي! ما أعجب النفس البشرية، نفس
تشارلي التي عاشت واغتيلت، ونفس قاتله الذي أجاب على رأيه برصاصة والأعجب أنَّه
خلّده وخلّد مدرسته لأجيال وأجيال ربما! ونفسي أنا التي ليس لها من الأمر من شيء
بين تشارلي، وقاتله، وأمريكييهم الذين أتابع أخبارهم السياسية من بعيد! لا توجد
حقيقة موضوعية سوى أن صاحب رأي قد اغتيلَ في الولايات المتحدة الأمريكية، ولا توجد
حقيقة موضوعية سوى أن ذلك الذي كنا نحب أن نكرهه ماتَ ميتةً حقيقة، من أجل أفكاره،
ومعتقداته، وبغض النظر إن كنت خصما لأفكاره، أو حليفا لها، يمكنك أن تنصف خصمك
بالاحترامِ الذي ستكنه لنفسك لو كنت أنت الذي ماتَ مؤمنا بأفكاره ومعتقداته. عاد
تشارلي كيرك لخالقه، وبقي الأحياء في هذا الكوكب البشري الغريب، وفي هذا الوضع
العالم الملتبس بكل نبؤات الحروب الكبرى التي به، وذهبت أمريكا التي نعرفها، ولا
أحد يعرف، هل كل هذا اجتماع كائنات الشر والدمار ممثلة في نتنياهو ومن يحميه
ويرعاه ترامب؟ أم أن أمريكا أصبحت بكل بساطة هكذا! مكانا مارس الموت خارج حدوده
إلى أن بدأ يستمرئه داخل حدوده! بكل مقتي، وكراهيتي، ورفضي، واشمئزازي، واحتقاري
لكل ما يمثله تشارلي كيرك سياسيا أستطيع أن أقول لهذا الخصم الميت، سوف نفتقد ذلك
الوضع العادل المنصف الذي كان يجمعنا في حياةٍ واحدة، رحلَ وتركَ كل الأسئلة
المعلقة عن ماهية الحرية حقاً في هذا العصر الذي نعيش فيه! وعن مآلات هذا الطاعون
الأمريكية من التناقضات والانقسامات التي تتجاوزه إلى العالمِ لتصيبه بما تصيبه من
ربكة. ونعم، ترامب حاول أن يجعل أمريكا دولة صناعية، ونجح في ذلك، نجح نجاحا باهرا
في صناعاتٍ مختلفة، صناعة الانقسام، وصناعة التناقض، وحماية الإبادة، بل وحتى
صناعة نشطاء مثل تشارلي كيرك ماتوا في سبيل قضيتهم. ثورة صناعية قادها ترامب، وليس
تشارلي كيرك الأمريكي الأوَّل الذي سيدفع ثمن الانزياح الهائل الذي سببه نجم
الواقع الأمريكي، البليونير الذي أصبح رئيسا لدولة من أقوى دول العالم، والاندفاعي
الذي لخبط الأوراق الأمريكية، والتي لولا دستورها التي يحميها من بقائه للأبد
لربما كان الآن يضغط زرَّه (الأكبر) ويختار الدولة التي ينسفها في الأرض نسفها،
كما فعله حليفه، وصديقه نتنياهو الذي تحول إلى نازيٍّ حقيقي وأين؟ في كوكب القانون
الدولي، وحقوق الإنسان! أولا وأخيرا، كل ما يحدث لأمريكا، يحدث أيضا للعالم أجمع!
ومن يدري ما مآلات كل هذا الانقسام الأمريكي!