بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 30 أغسطس 2024

مهنةٌ

 


 

أن تؤدي عملك على أكمل وجه، أمام الكاميرة، تسحب من طاقتك، ومن كل خلايا قوتك الوجدانية، من أجل لحظة انطلاقٍ، لكي تبدو مليئا بالحياة! هذا هو مأزق مهنةٍ ترتبطُ برزقك في الحياة، وإلا ما معنى أن تكون محترفاً سوى أن تدسَّ كل خيباتك في حقيبةٍ خفيَّةٍ وتلبس قناع السعادة والنشاط والحيوية بكل إتقان!

أمام الكاميرة أنت شخصٌ آخر، كتلةٌ من الصبر، يحتاجُ الأمرُ إلى عينٍ ذات قرينٍ بصير لتعرفَ من الذي يكون وراءَ تلك الهالة المضيئة. مع كل يوم يمضي، يصبح الأمر صعبا. أصبح من الشاق أن أخفي تعاستي، وخيبتي تجاه الحياة، ليس لأنها تعبر عني كليا، ولكن لأنني حالي حال أي إنسان آخر لا أخلو منها! فكرة إنكار بؤس الحياة من أجل الانطلاق في هذه السعادة المفرطة التي تشيع في الأرجاء أصبحت عبئا كبيراً، وأظنُّ أن هذا ما أعادني صاغراً مطيعا لمقدس الكتابةِ الصافي.

أمام الورقة والقلم لا تحتاج أن تخفي تعاستك، ولا خيبتك، ولا آلامك الوجودية المتراكمة، لست بحاجةٍ إلى الزعم أنَّك تقبل العالم كما هو عليه. أنت في حلٍّ من الارتماء في أحضان اللحظة المشعِّة، فكون أنت كما أنت، بكل جروحك وشقائك، بكل تعبك، تتقبل موت بعض أحلامك، وفوات جزء من عمرك، وضياع الكثير من تعبك، وفلات بعض آمالك من يديك، تتقبل إنسانيتك، ووجودك الحقيقي، وتذعن للمنطق الذي يحكم قبضته على أيام عُمرك.

أنخلعُ كُل يوم من عالمي البصري، ألوذُ بحرم الكتابة الطاهر منهمرا على حقيقتي، منسكباً على جوهري المهشم، مهشما تلك الموضوعية المعبَّأة باللحظات البرَّاقة إلى هذا المضمون الكئيب. هذه حقيقتي، وهذا أنا، ومعي كثيرون يعيشون هذه الحياة بلا سعادة تذكر، وباكتئاب حقيقي، وبشعور عارمٍ بالسخطِ تجاه الحياة. لست تعيساً بما يكفي لأتوقف عن الحياة، ولست سعيدا بما يكفي لأعلن نفسي من عشاقها المتحمسين، إنها الحياة! واجب أؤديه، فقط لأن الانتحار جُبن، ولأنها الخيار الشجاع الذي أستعين عليه بكل ما يتيسر من الحروف والكلمات.



أقتلعُ نفسي من عالم الضوء اقتلاعا، أحكم المنطق الذي أعيش به حياتي، وأؤطر ما سبق من تنازلاتٍ من الوقت والجهد لأعطيها سياقها المناسب. كنت أعلم أنني سأصاب بالسأم يوماً ما، وأنني سأعود إلى هذا الدرب الذي أنفقت فيه عُمرا كاملا. كنت أعلمُ أن هذه اللحظة ستحين، لكنني لم أكن أعلم أنني عشتها لعامين تقريبا، وأنني ذهبت إلى قراري قبل أن أعلم أنني اتخذته.



ألتقي بعالمٍ من عُلماء النفس الكبار، وندخل النقاش الاعتيادي الذي يجوب أرجاء الأذهان في مجتمعنا العتيد. يسألني عن حياة المنصات، وأن يعرفك الناس، وربما أن يحبك كثير منهم. ولأنني أمام عالمٍ حقيقي، أبوح له بحقيقة كل هذا الحطام. حطامي، وهشاشتي، وتعاستي، واضطراري المستمر لتغذية هذا الوحش النهم بالوقت، والمزيد من الوقت، والتركيز، والأيام. يرفع حاجبيه في دهشة لا تخلو من الصدمة: حقا! أتابعك دائما، تبدو سعيداً، ومنشرحا، وتحبُّ الذي تفعله!



نعم! سعيد أحياناً، لكنني منشرحٌ لأنني منضبط مهنيا، أؤدي عملاً، أنفق من قلقي وإرادتي ما يكفي ليجعلني مرهقا وتعيسا. واجبٌ أؤديه ببراعةٍ أحيانا، وبشغف ماتَ منذ خمس سنوات. أن تكون موجودا، ومؤثرا، وصاحب رأي هذا شيء آخر، يختلف عن كونك صاحب منصة رقمية استحوذت على حياتك حتى أصبحتَ غير قادر على الفكاك منها. هذه المرَّة أعرف الفخَّ جيدا، وأمام ربما أقل من خمس سنوات قبل أن أهربَ منه في خلاصٍ جديد، ليس هذه المرَّة. لقد اكتسب ذلك المجنون وعيا جيدا يسمح له أن يعرف متى يتوقف، وكل هذا الانهمار يستحق ورقةً بيضاء. أمَّا الذي يحدث هُناك، فهو يحدث هُناك، لا يختلف عن تلف خلايا الجسد، مهنةٌ أخرى، لقمة عيش، وتعاسةٌ أخفيها، وسعادة أدَّعيها.

 

أنا بخير، ولكنني لست سعيدا. بخير، ولست تعيسا. لقد سئمت من كل شيء. أنسحب بهدوء تامٍّ وأبقي ما للقمة العيش للقمة العيش، وما للكتابة للكتابة. التعاسة ليست مهنتي، ولا السعادة مهنتي، حياتي سلسلة لا نهاية لها من السطور، وآلاف الصفحات، وأحلامٌ كثيرةٌ بأوراق مطبوعة. لم أعد أعبأ بأي شيء، ولا أبالي بحدوث أي شيء، أكوِّن ما يكفي من الشر لأحمي نفسي، وما يكفي من الحياة لأكمل رحلتي الأخيرة قبل الاختفاء القسري، والموت الذي لا أعلم كيف سيأتي، تدريجيا أم مباغتا. أشعر بالتعب الشديد، كل شيء حقيقي عندما تحين لحظة الكتابة، وهذه الحقيقة التي أختارها، وأقبلها، أمَّا كل شيء آخر، وكل زخارف الضوء تلك، فهي مهنة ظريفة، ولطيفة، ولا تخلو من السلوان أمام هذا الانهيار الجسيم للسياق البشري، وهذا العالم الجديد الذي لا أعلم كيف وجدت نفسي فيه! يوماً ما. كل شيء تغير ما عدا خيارات الكتابة، يوما ماً كان خيارا صعبا، واليوم هو أيضا خيار صعب، ما أتعس الذين يكتبون، السعداء منهم لا يطيقون ذهاب الوقت، والتعساء منهم لا يطيقون قضاء تعاستهم بدون حبر. دون هذا الحبر، أكتب لأنني أكتب، يوما ما سأعرف إجابة كل ذلك الطنين الغامض، وهذا الشقاء الذي يجعلني أكتب ما أكتبه الآن. السعادة مهنتي، وأنا أتقنها، لكنني لا أحبها، ولا أنتمي لها. المجد لكل التعساء الذين يجعلون العالم جميلا، عسى أن أكون منهم ذات يوم! لا أقصد التعساء، وإنما الذين يجعلون العالم جميلا!

 

معاوية

30/8/2024

 

اليوم الثالث:

 



هذه معركتي! وهي مؤجلة، ما يبدو الآن كسباً لأيام متتالية بلا تدخين ليس أكثر من انتصارٍ وهمي تخدره نشوة الإرادة، والشعور بالإنجاز، والإشباع الخفي لما قمت باتباعه من معايير صحية. هكذا يدور الأمر في عقلي:

- لقد قطعت التدخين، أنت الآن أكثر صحيةً، حسنا فعلت!



ولكن هل الأمر حقا يجري بهذا المنطق؟ الإرادة التي لم تتحاول إلى عادةٍ ملتصقةٍ بك، الإرادة غير العميقة تتصدى لها المشاكل العميقة، وهُنا النزال الذي أحاول خوضه، واستباقَ وسائل الدفاع تجاهه، هذه الأيام تُراكم معها منطقاً آخر، به التعب الصغير يكبر، وهو يهون الآن أمام النشوة المؤقتة للشعور بالإنجاز، والشعور الوهمي بالنجاة من إدمان النيكوتين العميق!



بدأت ملامح خسارة حياتي المضافة كمدخن. ساعةٌ كاملة فقط ليتفتح عقلي. أين يحدث التراكم؟ سيحدث عاجلا أم آجلا لأن العادات المرتبطة بالحياة المضافة لأي مدخن موجودة ولم تتغير. تخيل أن لديك موعداً في الساعة الثامنة صباحا! كشخص لم يدخن يوما ما سوف تستيظ وتأخذ نصف ساعة [لتصحصح] ثم ستذهب إلى موعدك!

كمدخن، تأخذ ربما عشر دقائق لكي تنتقل من حالة النوم إلى حالة النشاط، وتقفز من السرير إلى المسبح إلى دشداشتك إلى السيارة وأنت بكامل نشاطك. أين تحدث الهجمات اللاحقة التي ترضخك وتعيدك إلى قبول وضعك كمدخن؟ من نسيان هذه التغييرات!



أثناء فترة الانقطاع، تكون مشغولا بنشوة الإرادة، بشعورك بالقوة، وأنَّك تقاوم إدمان من إدمانات العصر. تعرف أن القرف الذي تشعر به مؤقت، وتعرف أن الألم سيقل، [والضيقة] التي تعصف بمزاجك ستتبدد مع مرور الأيام، ولكن إلى أي مدى! ذات يوم سيقف هذا التحسن، وسترجع إلى مزاج الإنسان العادي، الإنسان غير المدخن! ووقتها ستواجه الحياة بلا عادات تحسن مزاجك. هل رأيت ذلك الشخص [غير المدخن] الذي يشربُ مشروب الطاقة؟ هذه هي العادات التي نتدخل فيها لتغيير مزاجنا، وللتعايش مع ليلة بنوم سيء، أو مع زحام متتالٍ لعدة أيام متتالية. تعايش كيماوي! القهوة، وسيلة مقاومة أخرى.



يتراكم الشعور بالخيبة، ساعتان فقط لكي تطيق أن تفتح الواتساب وترد على أحد، خمول شديد، شعورٌ بالخوف من تناول وجبات ثقيلة، وصناعة ارتباط مع منتجات النيكوتين التعويضية. هذا وأنت لم تترك النيكوتين، هذا وأنت توقفت فقط عن تنفسه عبر رئتك. هذه هي الخيبة العدمية التي تتفاقم لاحقا، وتسأل نفسك! كل ذلك التعب، هل نسيته؟ كل تلك المحاولات للانقطاع لماذا فجأة أصبحت لا تعني لك أي شيء، الإدمان العميق وجد معززاته، ذلك النكز اليومي لوعيك، وشعورك أنَّك صرت إنسانا أقل إنتاجية!



أبسط شيء، الصدمة المهنية. هل يتسع العالم [لمؤثر] في العالم الرقمي أن يكون بمزاج سيء! كيف ستحضر فعالية ما؟ وأنت معكّر المزاج، منزعج، لا تستطيع الكلام إلا بشحوب، وكأنك مسحوب إلى ذلك المكان مجبرا؟ ضربة أخرى تعزز الهجمات العدمية اللاحقة، والتي ستأتي، والتي قد تكون أقوى من السابقات مع مرور الشهور.



أجهز ميدان المعركة المنطقية، وأعرف أن عادات كثيرة لي مبنية على الحياة المضافة للمدخن، والنشاط المرتبط بآلية لتنظيم المزاج. هو فقط ذلك الشعور أن [مرة واحدة لن تضر] ينسفُ بكل بدائل النيكوتين، ويجعل التدخين الخيار الأسرع، والأوفر وقتا. ويعود كل شيء إلى ما كان عليه!



أكثر شيء يخيفني في التدخين هو الإسراف فيه، أثناء الكتابة العادة لا تمزح! والعلبة تختفي، ومخزون السائل الإلكتروني ينفد، والإدمان العميق يصنع لنفسه حضورا في عادات مقدسة في حياتك ككاتب!



أتقبل هذا العذاب حاليا، ولا أركز عليه كما كنت أفعل في المحاولات السابقة. الخطأ في المحاولات السابقة أنني أشعر بالانفصال عن دماغ المدخن وأن الأيام التي تزداد تعني انقطاعا أكبر. نعم. شعور وهمي جميل في بدايته. زخمٌ من الإشباع والنشوة. الذي يحدث لاحقا هو المقلق، في داخل الذهن، هُناك تحدث اللعبة التي تقلب الطاولة على رأسي، وربما رأس كل إنسان حاول مرارا أن يترك هذه العادة المميتة! ويتساءل: لماذا أعود؟ لماذا أعود!



وعينا بالصحة محزن أحيانا. تحتاج إلى ضربة على رأسك لتستيقظ. هذا ما حدث لي عندما بدأت مزاح السكر الثقيل يزداد، صدمة وغيرت سلوكي جذريا، المؤشرات الرئوية ليست جيدة. والضربة التي تأتي من تدخين عشرين عاماً لن تكون ضربة جيدة. الأمر لا علاقة له بضعف الإرادة، ولا علاقة له بنظريات القسوة على الذات التي يلوكها البعض كأنها بلا مضار أخرى. الموضوع فكري بحت، ويحتاج إلى صناعة مجادلات محكمة، ولا تعرف أي ثغرة أفلتت من رأسك، أي ثغرة ستجعلك في الوقت الخطأ تقرر القرار الخطأ.



كل إنسان ينقطع عن التدخين بطريقته، الذي ينعزل، ويبتعد عن أجواء التدخين، والذي يقسم يمينا على القرآن، والذي يختفي لمدة أسبوعين ويسافر ويعيش عصبيته بعيدا، كل إنسان بطريقته. وبطبيعته التي يعاني بسببها. إن كانت علمتني تجربتي مع ثنائية القطب شيئا، فهو الخوف من مزاجي، الخوف من المزاج الجيد كالقلق من المزاج السيء والمنخفض، كيف تبقي نفسك في حالة وسطية! هذا هو التحدي الصعب، والسجائر كانت عاملا مساعدا للأسف، عاملا يجب أن أتعلم الحياة بدونه! أسأل الله أن تكون هذه المرة الأخيرة التي أضطر فيها لصناعة حرب فكرية مضادة لعادة مستشرية ماديا وفكريا. ويعلم الله فقط، هل سأنجح، أم سأعود مكتئبا عدميا أبرر للموت على هيئة تلك السيجارة الرأسمالية التي تعد بالموت، ومع ذلك لا يعبأ الملايين بها!





معاوية

30/8/2024

 

 

إدمانات عميقة!

 

 

إنَّه يومي الثاني بلا تدخين. تغيرت العادة فقط ولم تتغير المادة الإدمانية. الذي كان يغزو الجسد عن طريق الرئة أصبح يستأذنه عن طريق الفهم. منتجات بديلة، طبية وأخرى شعبية، وكلها تصب في الهدف نفسه، إيقاف استهلاك الرئة، وإدخال الدخان إليها. وماذا عساك أن تدخن؟ السجائر؟ أو تلك الإلكترونية التي لا تخلو من أخطارها الأخرى. تدهشك بتجمع سوائل في الرئة فتضرب الأخماس في الأسداس وتتساءل: ما الذي جعلني أتقبل هذا الموت البطيء طوال هذه السنين؟

 

واقعيا، ومنطقيا قد أكون دخلتُ منطقة الخطر الأخير دون أن أعلم، قد تكون جينات الرئة قد تغيرت، لا أعرف هل هي الجينات أم الكروموسومات، أم شيء ما له علاقة بالحمض النووي الوراثي، الذي أعرفه وليست لدي رغبة الآن في [جَوْجَلَتِهِ] هو أنَّ التغييرات التي تؤدي للسرطان قد تحدث، وقد تؤدي إلى السرطان حتى بعد الانقطاع عن التدخين بسنوات، إن كنت تريد معرفة الحقيقة فوفّر عليَّ ذلك وابحث عنها بنفسك عزيزي القارئ، لست هُنا لكتابة نص علمي مُتقن، هُنا أنحت مفهوماً شخصيا، شيئا يساعدني لاحقا على مواجهة الهجمات العدمية، وتلك المفعمة بالاستخفاف بالعواقب، تلك التي ستأتي بعد شهرين من الآن. إن نجوتُ من العودةِ إلى التدخين لشهرين، وقتها سيبدأ التحدي الصعب، وأسئلة الإدمان العميق!

 

هل هناك حقا إدمان عميق وإدمان سطحي؟ يخيِّل لي هذا وأنا أنظر إلى عدة عوامل مختلفة بين إدمان وآخر. هل يمكنني أن أقول عن إدمان الكوكايين أو الشبو إدمانا عميقا! لا يبدو عميقا، يمتد لسنوات، وقد يحدث ذلك في ظروف خاصة جدا، هذه الإدمانات غير القانونية والتي تحيط بها العواقب من كل حدب وصوب قد تصيب الجهاز العصبي في مقتل، تصيبه بتلف دائم، لكن هل هي عميقة عُمق إدمان مسموح؟ إدمان القهوة مثلا؟ إدمان دوبامين الشاشات، ومواقع التواصل الاجتماعي؟ أيهما أعمق حقا! يأخذني عقلي إلى الاستنتاج أنَّ إدمان القهوة أعمق بكثير، وأكثر تغلغلا من إدمان المورفين حتى! كم عساك أن تدمن المورفين، أو الهيروين قبل أن تصل إلى نقطة الخطر! حتى إدمان الحشيش، لا أتذكر أنَّه كان عميقا لهذا الحد، يعطل الحياة اليومية، يلفت الانتباه، يغير طريقة التفكير، لعله أعمق من الإدمانات الأخرى، ولكن هل هناك إدمان أعمق من القهوة؟ والشاشات؟ والنيكوتين؟ لا أظن! التدخين إدمان عميق للغاية! ولذلك محاربته تحتاج إلى تجهيزات فكرية ومجادلات دفاعية، فالهجمة لا تحدث الآن.

 

إنه السنة الخامسة لي وأنا أدخل حالة الإرادة هذه، أنجح وأخفق. أحاول تحويل فشلٍ متعدد الأركان إلى نجاح تعويضي، هذا ما أفعله مع جسدي الذي أرهقته بسنوات من سوء الاستخدام. تعافيت بنجاحٍ مُرضٍ من استخدام طويل المدة لمخدر الحشيش. عادات كثيرة تغيرت، صرت رياضيا، تغيرت أشياء كثيرة بي، عدت للدراسة، فعلت أشياء جيدة كثيرة، وبقيت هذه العادة الملعونة التي تعبر عن فشلي الرئيسي الذريع في هذه الحياة. كنت أعلم قبل عشرين سنة أنني سأندم كثيراً على دخولي عادة تدخين السجائر، كنت أعلمُ وأنا أورط نفسي بمادةٍ هجومية متوحشة متغلغلة يدعمها شيطان رأسمالي جعلها مباحة قانونيا أنَّ اليوم الذي أندم فيه وأحاول التخلص من هذه العادة سيأتي. كم محاولةً حتى الآن؟ عشر؟ عشرون! لا أظنها تقلُّ عن العشرين! وفي كل مرة أتعلم شيئا جديدا، طريقة جديدة لزيادة عدد الأيام الأولى. ودائما النهاية نفسها تحدث!

 

لدي خبرة كبيرة جدا في الانقطاع عن التدخين لمدة شهرين أو ثلاثة. لهذا أنحت الآن هذا المصطلح الذي لم أبدأ النبش عنه حتى الآن، لعله يستخدم في سياق آخر في أدبيات علمية أخرى. أميل إلى تسمية استهلاك النيكوتين عبر الرئة بالإدمان العميق! لأنَّه حقا متغلغل، مثل سوسة النخيل التي صنعت مساراتها في جذع النخلة! هل ستقطع جذع النخلة فقط لأن السوس قد هجم عليها؟ ستتركها، ستحاول رش مناطق العدوى، ستفعل الكثير، لكنك لن تقطع جذع النخلة! تشبيه قد لا ينطبق كثيرا على هذه العادة المباحة، ومن يعلم حياة المدخن غير المدخن؟ الحياة المُضافة، النشاط الإضافي، الاستيقاظ السريع، الهجمة السريعة على القلق، والاكتئاب، التخلص من عناء يوم مرهق، القراءة مع السيجارة، القهوة مع السيجارة، الكتابة مع السيجارة، هل عرفت لماذا أسميه بالإدمان العميق؟ لأنه يتغلغل ويرافق العادات مثل الآفة الضارة التي تضع بيوضها وتنمو يرقاتها في أنسجةٍ أخرى. وتمضي السنوات، وتتكاثر هذه اليرقات الفكرية في عقل المدخن، فيقبل السرطان، ويقبل ضعفه، ويقبل المصير النهائي المحتمل للمدخن، ومع ذلك، يبقى يلف ويدور ويضرب الأخماس في الأسداس، يقطعُ لبعض الوقت ثم تهجمُ عليه هجمات التفكير العدمي فيعود لعادته السابقة مفتقدا حياته المضافة، ذلك المنشط الكيماوي الذي تدخل في سلوكيات كثيرة في حياته.

 

أيشعر شارب القهوة المتطرف بهذا الشعور عندما يصاب بالقرحة مثلا؟ أن إدمانا عميقاً منحه حياةً مضافةً يُسحب من حياته. لا أجد إدمانا شبيها للسجائر مثل إدمان القهوة، أو إدمان الشاشات هذا الذي يجعلنا بهلعٍ نفتح [الواتساب] بذعرٍ شديد وكأننا نخاف أن يفوتنا شيء ما. منصات رقمية مصممة بعناية، مثل السجائر، لنستخدمها فنعود مشبعين بشيء ما، شيء ما من القلق المختلط بالراحة، من الانتباه المختلط بالشعور بالحياة الاجتماعية، أننا نرى الحياة من شُرفة تُطل على الكوكب كاملا! وتغرس العادة نفسها لسنوات وسنوات، يرقات الأفكار/الآفة تصنع مساراتها في جسد فلسفة الحياة، فنقبل هذا القلق العارم، ونتصالح معه، بل ونتصالح مع هاتف سخيف للغاية لا يحتمل يومين دون أن تفرغ بطاريته فيعيدنا رغما عن أنوفنا إلى مدنية الكهرباء، خاضعين، مذعنين، نقبل هذا الشتات، ننفصل عن حرية الطبيعة، نخترع الطرق التي تأخذنا إلى رحلةٍ صغيرة، مصطحبين بنوك الطاقة، ووسائل الشحن، ونحن في هذا الذعر، والرعب من فوات أي شيء، يدخل هذا الكابوس لكي يمنحك وسيلة راحةٍ من هذا القلق العالمي! إدمان عميق لتهدئة قلق إدمان عميق آخر، وهكذا دواليك، ننهرس تحت وطأة هذه العادات التي جعلتنا ما نحن عليه من كوكب فرداني متنصل، لكل إنسان صوت، لكل إنسان رأي، لكل فردٍ حياته المنعزلة وفي الوقت نفسه المتفاعلة مع كل ما يشبهه، ومن يشبهه في فضاء البسيطة الملغوم بالحروب والنزالات الفكرية!

 

هذه معركتي، التي عشتها مع السكّر، والقهوة، وتويتر، والفيس بوك، والآن مع إدمان النيكوتين العميق! أصعب ما في الإدمانات العميقة هذه أنَّها مباحة قانونيا، واجتماعيا. هل اتصلت بالشرطة ذات يوم لأنَّ مدمن سكَّريات طلب عشر كعكات من [الدونات] وبدأ يأكلها بشراهة أمام عينيك؟ لن تفعل ذلك ربما، وإن كنت مهووسا بإطلاق الأحكام قد تطلق تعليقا متنمراً، وإن كنت إنسانا طيبا قد تنصحه بشكل ما أو بآخر. هذه معركتي! وأواجهها مضطراً، ولا أعرف متى كان يجب أن أنتبه إلى أنني أصنع مشكلات عويصة تتفاقم مع تقدمي في العمر. قطعت شوطي الأوَّل في مواجهة الإدمان المباشر، لا حشيش في حياتي، لكنني هل أستطيع أن أقول ذلك عن إدمان الإنترنت؟ تحايلت على الأمر وحولته إلى مهنةٍ، كان هذا كافيا ليفقد الحضور الرقمي متعته، ولتتحول الأيام التي أقضيها بعيدا عن تغذية هذه المنصات الجشعة، والشرهة بالمحتوى، والكتابة، والتفاعل مع الناس! إن كان ولا بد أن أغذي عقلي دائما بشيء ذهني تفاعلي، فليكن الكتابة، وإن كان ولا بد أن أغذي هذه المنصات بمحتوى تفاعلي فلتكن مهنةً. لم أصب بالتعب، لكنني أصبت بفقدان الشعور تجاه جماليات جِدَّة كل ذلك. كيف لمدونٍ محترفٍ أن يتعايشَ مع عاديةِ الإنترنت، التي كانت يوما ما ثورية، وتغييرية، وصرخة في وجه تشابهات العالم وكثبانه الجمعية!

 

والآن ماذا؟ أعيش الفقرة الأخيرة في كتابِ الزمن الجديد. أعيش امتدادَه وما أخذته منه ليكون معي في خريف العُمر، الواقع الافتراضي في الطريق. سيكون صديق أوقات الفراغ الشحيحة. وماذا بعد؟ الذكاء الصناعي؟ أصبح أداة جيدة توفر وقت [الجوْجَلَةِ] المحيرة بين المصادر والنسخ المتعددة من الحقيقة الواحدة. في هذه التي اسمها "الأربعين" أدخل لليقين الجميل أنه ربما لن أعيش أكثر مما عشت، وخلال عشر سنوات، أو عشرين إن كنت محظوظاً قد أتدهورُ ما لم أتخذ قرارات حاسمة تجاه صحتي، التدخين قرار أوَّلي، إدماني العميق، معركتي التي يجب أن أنتصر فيها إن أردت التفرغ لباقي المعارك الصغيرة. سيدفعني إدماني العميق للحيرة، وسأضرب الأخماس في الأسداس، سيهاجم وقت الكتابة، ووقت الأفلام، ووقت الفراغ، ووقت الحديث مع الأصدقاء، سيضرب ضرباته بضراوة، سيرفض حياةً ناقصة، وستهجم، بعد شهر، أو شهرين! وأنا حائر، حائر ولا أعرف متى سأخفف من بدائل النيكوتين، وماذا سيحدث لي مع كل تخفيف؟

 

ستكون معركة منطقية هذه المرة، لن تحل بالنسيان، ولا بالتجاهل، ولا بالانشغال القلق بألف شيء، وأخشى أن أكتشف منطقة جديدة أستسلم فيها، أو أن يصدق الكلام أن الإدمان جينات لا يمكنك أن تتصدى لها، وأن القهوة، والنيكوتين، أو التدخين، والجلوس على المنصات الرقمية جزءٌ من المشهد الكبير، هل سأنتقل من إدمان الرياضة إلى إدمان الجلوس على الألعاب؟ أدمن المذاكرة؟ ثم أدمن النجاح؟ ثم أدمن الهرب، وهكذا دواليك، لأن الأمر أعمق من فهمي، لا أعرف! أشعر بطمأنينة لأنني عدت للكتابة، هكذا بلا مؤثرات تعينني على إطالة ساعاتها قدر الإمكان، أشعر بطمأنينة لأنني عدت لها دون أن أدمر حياتي الخارجية، وأصنع منها كل ما يجعل عزلتي ملاذا، فعلت هذا من قبل، ولا أعرف ما الذي أفعله الآن. أريد أن أكتبَ، والحياة لا تسمح لي بفعل ذلك بسهولة، ومع ذلك أكتب، ويوما ما لن أضطر إلى توظيف الكتابة لترميم الدمار الذي عشته في حياةٍ شاقَّة، ومضنية. يوماً ما، سأكتبُ وأنا أعلم أنني أترك رسالتي الأخيرة في هذه الحياة. يوما ما، سأكتبُ وأنا أشعر أنني لن أحزن لو تركت الكتابة بعدها، يوما ما قد يكون قريبا أو بعيداً، سأترك بصمتي التي لن أخشى بعدها من الموت، ولا أعلمُ كيف سأرحل عن الحياة، بجلطة، بحادث، بنيزك، بمرض عضال، بموت سريع، بموت بطيء، هذه معركتي، في هذه الحروف، وما التصدي لشيء سخيف من أشياء الحياة كالسجائر إلا واحدة من وسائل المقاومة لصناعة نهاية جميلة تعطي معنى أجمل لكل هذا الوباء الذي اسمه حياة، وهذا الكابوس الذي اسمه: الدنيا!

 

معاوية الرواحي

30/8/2024

 

 

 

 

 

 

 

 

الخميس، 29 أغسطس 2024

كل إنسان يحتاج لمساعدة!

 واقع الصحية النفسية في المنطقة العربية لا يمكن أن يوصف بأقل من كلمة "المحزن" والأسباب لا تخفى على أحد. ولست بصدد الكتابة عن الوصمة المتعلقة بالأمراض النفسية، ولا بصدد الحديث عن تحول مؤسسات الرعاية الصحية النفسية إلى مزارع أموال تتاجر بمشاعر اليائسين، ولا كيف أنَّ هذا العالم لا يخلو من الاستغلال، سواء للمدمنين، أو للمرضى النفسيين، فضلا عن ما يحدث للذين يعانون من التخلف العقلي، والقصور في النمو من تخلٍ، فيرمون أحيانا في مستشفيات تعيسة التمويل، ويكملون حياتهم في سجنٍ على هيئة مستشفى، هل هذه الحياة جميلة أو نظيفة بما يكفي لكي نظن بها خيرا؟ وأنَّ الذي يفقد أهليته سيجد بالضرورة حقوقه! كلا! هذا العالم ليس نقيا بما فيه الكفاية ليحدث هذا للجميع!


لذلك عليك أحيانا كمتخصص في الصحة النفسية أن تأخذ الأمر حالةً بحالة، أن تشرح بلا توقف معنى العلاج النفسي، والتدخل النفسي، والفارق بين الطب النفسي وبين الأخصائي النفسي، ودورهما المشترك في صناعةِ طمأنينة واستقرارٍ لمريضة أو لمريضة، لمدمنٍ أو لمدمنة، لمنهارٍ بسبب وفاة قريب، أو لشخص يعاني من نوبةٍ تعود له بين الفينة والأخرى، لو لمريض منتكس ترك أدويته من تلقاء ذاته والنتيجة أنه يدفع الثمن على هيئة نكسة مرضية قد تؤدي إلى خسارته لعمله، أو لدخوله السجن، أو لتعرضه للنصب والاحتيال من قبل الذي يجيدون استغلال البشر، هذا إن لم نتحدث عن المصائب الكبرى، كالاتجار بالبشر، أو بيع أعضائهم.

التصور النمطي عن الأدوية! عاقلٌ يفهم الحياة يتعامل مع الموضوع كأي جاهل! "لا تأخذ أدوية" افعل أي شيء ولكن لا تأخذ أدويةً!! السؤال ليس هو هل تأخذ أدوية أو لا، الممارسة المبنية على تخدير المريض من أجل مصلحة الذين حوله هذا سلوك اجتماعي اضطراري يحدث نتيجة وجود قصور في الرعاية المتكاملة، والتداخلية. إن كنت ستقابل المريض مرة كل عدة أشهر، فأي مقاربة ستتخذ؟
المقاربة المتكاملة، مبنية على مراجعات متقاربة، ومراجعة دائمة للجرعة، وجلسات مع الأخصائي النفسي، بل ومقابلات لأفراد العائلة؟ ولكن لماذا يحدث ذلك؟ لأنك تنظر للأمر من منظور حقوقي بحت.
المريض النفسي إنسان، يحق له أن تكون له أحلام، يحق له أن يدرس، وأن يحاول الحياة، وأن يكون حياةً. إن كنت تنظر له من هذا المنظور فماذا يعني ذلك؟ يعني أن تقدم له نظاما متكاملا يسمح له أن يعيش هذه الحياة محميا من نفسه ومن غيره. ولكن ماذا لو أنت لم تكن تنظر له بهذه النظرة؟
دخل حالة ذهانية، وبدأ يرى خيالات، حكمت على أحلامه، ومهاراته، وقدراته، وطموحه بالإعدام! اسمه [مجنون] اسمه [مريض عقليا] والجاهلُ لديه مبالغةٌ في إلغاء حقوق الذين فقدوا السيطرة على عقولهم، شيء آخر مؤسف في هذا العالم.

الذين يعانون من الأمراض النفسية أولا هم المرضى أنفسهم، والذين يدخلون بعدهم في المعاناة هُم أهاليهم. ما شعور زوج يرى أمَّ أطفاله الثلاثة وهي تدخل في نوبة هوسٍ، أو تعاني من تقلبات الوسوس القهري، أو تتعايش مع اضطرابٍ جسيم في الشخصية! هذا القلق في حد ذاته يحتاج إلى عنايةٍ ورعاية، يحتاج إلى أن تجد المتخصص المناسب الذي يساعدك على رعاية المريض! هل رأيت كم الأمر متداخل، وكم يحتاج للعناية والدعم!

ثمة ظنون خاطئة تجاه موضوع العلاج بالأدوية. بعضها صحيح جدا، بعض المؤسسات الطبية تعطيك الدواء الذي يجعلك تعود لها، ولكن هذا لا يشمل الجميع، ثمة طبيب أمين ومخلص لمهنته ويعطيك الدواء الذي يناسبك، وليس الدواء الذي تتعود عليه، وبشكل عام هذا موضوع جدلي كبير، السؤال هو: هل ستجعلني هذه الأدوية أتحسن!
الأدوية ليست العصا السحرية التي ستجعلك بخير وفق المتعارف عليه نمطيا، حبَّة السكّر تضبط نسبة السكر في الدم، وتحميك من النهايات المريرة للفشل الكلوي، ولإصابات الأعصاب، ولتأثر العين، كدواء الضغط، ثمة أدوية تقوم بهذا الدور ليس لأنك [مريض] ولكن لتجنب ما هو أشد وأنت تعيش قلقا هائلا، أو اكتئابا حادا بعد وفاة زوج أو زوجة، أو أب أو أم.
سيقول لك الجاهل: تجاوز كل هذا بنفسك، لا تذهب لطبيب نفسي!

السؤال هو: ستة أشهر؟ أم ثلاثة أشهر؟ هذا ما يفعله الدواء أحيانا، يقلل المدة التي تحتاجها قبل أن تعود إلى سائر أيام حياتك ووقتك العادي اليومي! عندما يتعلق الأمر بأشياء كثيرة عارضة، مقابلتك لطبيب نفسي وحصولك على تدخل دوائي [مؤقت] قد يوفر عليك الوقت، ويعطيك مقاومةً للنكسة التي تعيشها! وركز في كلامي، أتكلم هنا عن الشخص الذي لا يعاني من مرض نفسي مشخص رسميا، أتكلم عن أي إنسان عادي، فكرة أن تذهب لأخصائي نفسي مرة أو مرتين في العام، أو أن تقابل الطبيب إن شعرت أن قلقك أو اكتئابك أو نومك أو شهيتك أو أشياء كثيرة دخلت حالة مقلقة لا تختلف عن ذهابك لطبيب الأسنان، لو كنت من النوع الذي يذهب إلى طبيب الأسنان بعد تحول الفجوة إلى التهاب مزمن في العصب، وتذهب فقط للخلع أو لنزع العصب، يمكنك أيضا أن تفعل ذلك تجاه صحتك النفسية، هذا خيارك! فقط، افصل هذا الاختيار عن تحيزاتك تجاه الآخرين. لو كان لديك صديق يذهب لسد فجوات أسنانه أولا بأول، ويحاول الحفاظ على أسنانه بعيدا عن الخلع فلن تطلق الأحكام عليه، لكن لو كان هذا الصديق يذهب لزيارة أخصائي نفسي، أو طبيب نفسي مرة كل ستة أشهر! ماذا ستفعل؟ ستسخر منه أليس كذلك؟ ستقول له: "تعصب رأسك ورأسك صحيح". الذي عليك أن تقابله مرة في العام، وتصنع معه صلةً تسمح له بمساعدتك هو الأخصائي النفسي. ليس لأنك تعاني من مشكلة، ولكن لأنَّك قد تحتاج لإنسانٍ مؤتمنٍ على خصوصياتك يعرف ملفَّك، وبناه بشكل متكامل في وقت لاحق. نوع من "التأمين" على صحتك، أن تخوض غمار الجلسات النفسية فقط بعد حدوث المشكلة، هُنا أنت تؤجل الأثر العلاجي. الصواب من أجل صناعة صمام أمان نفسي هو أن تكون لديك هذه العلاقة مع مركز صحي نفسي، أو مع أخصائي نفسي بعينه، وتزوره دوريا كما تفعل مع طبيب الأسنان، إن كنت بخير، ربما تزوره مرة كل عدة أشهر، وإن شعرت أن وضعك يتدهور تكثف هذه الزيارات وتتلقى العلاج مع أخصائي كوّن نظرةً عامَّة عنك ويعرفك جيدا كعميل. وأنت بخير، هذا هو الوقت الذي تتعلم فيه عنايتك بصحتك النفسية، وأنت بخير! نعم، أعيدها، وأنت بخير. الدعم والإرشاد النفسي العلمي والمنهجي والأمين قادر على أن يجعلك إنسانا أفضل، أكثر سعادة، قادر على أن يجعلك أكثر إنتاجيةً، وأن يجعلك زوجا أفضل، وأن يحل المشكلات الصغيرة وهي تتكون، أن ينبهك إلى السلوكيات التي قد تتحول لاحقا إلى مشاكل تلاحقك، هذه مهمة العناية الدورية بأنفسنا، ونحن نفعل ذلك بشكل ما أو بآخر مع مختلف الأشخاص في حياتنا، ومنهم الأصدقاء! الفرقُ بين الصديق وبين الأخصائي النفسي أن الثاني لديه نظرة واضحة وقانونية تجاه ما هو مرضي وما هو مقلق وما هو خطر. مقبل على الزواج؟ تزوجت قريبا وتفاجأت أن الزواج به مشاكل؟ دخلت وظيفةً جديدة بها ضغط شديد وسهر؟ تعاني من مشاكل في النوم والشهية؟ أشياء كثيرة يمكنك أن تفيد بها نفسك فقط لأنك تقابلا أخصائيا مرة في الشهر!
أشياء كثيرة يمكنك أن تجعلها أسهل، أو أجمل، أو أقل تعبا فقط لأنك تخوض هذه التجربة لعدة جلسات، ستعرف بعدها أن فكرتك عن العلاج النفسي، والإرشاد النفسي، والدعم النفسي، والاختبارات النفسية، واختبارات الشخصية وأشياء كثيرة قابلة على جعل حياتك أفضل! فقط عليك أن تكسر هذا الحاجز وتعرف أن مكانا ما لك يسمح لك أن تجد علاجك بعيدا عن شعورك بأن ما تعاني منه سيبقى دائما شيئا تعاني منه كسر مؤلم أو كخجل شديد من أن تقول: أنا أحتاج للمساعدة!

لحظة كتابة سيئة جدا!

 أواجهُ، ضمن ما أواجه في هذه الحياة، جُملا اعتراضيةً على هيئةِ إنسان. والذي يعيش تجربتي في هذه الحياة يكوِّن نظرته الخاصَّة لماهيةِ الذات، والآخر، والأثر، والإرث، والتأثير، وما يحق للغريب، وما يحق لك تجاه الغريب، وما يحق للغريب تجاهك. لا يمكنك أن تكون إنساناً عاشَ تجربة الجنون، والتمرد، والمرض، والكراهية، والمحبة، والنجومية، والسقوط الكبير، والقاع، والعودة، والسقوط مجددا، والانهيار العصبي، والسجن، والريبة، والظنون، والخصومات، والمصالحات، والتمرد الاجتماعي، والامتثال الاجتماعي، والحدية، والمنطقة البيضاء، والمنطقة السوداء، والهدوء النهائي، والشر، وبعض الخير. لا يمكنك أن تعيش كل هذا دون أن تكوِّن نظرتك، وأن تدوِّن قراراتك تجاه التعامل مع الآخر في هذه الحياة.


يحارُ البعض في فهمي لسببٍ بسيط، لأنَّه لا يقرأ لي. هذا هو السبب الكبير، والبسيط، والواضح. يتقف حائرا متسائلاً، هذا العاقل الذي يبدو مثقفا، يتحدث بسرعة وانطلاق، يحترمه طائفة من الناس ويسمونه كاتبا، أو شاعراً. وفي الوقت نفسه المتمرد نفسه، والمجنون رسميا، والمريض، والكائن المسكون بالشر والانتقام المتناثر في الفيديوات المرئية. الذي يقف في تلك الحيرة أعرفُ مباشرةً أنَّه لم يقرأ لي، ولا يقرأ لي، وقد يفعل ولكن لمجرد التربص والبحث عن الخطأ والتناقضات أو المبالغات أو الكذب عندما يحدث أن أكذب على نفسي أو على غيري. وأواجهُ في هذه الحياة هذا الذي لا يفهمني، ولا يقرأ لي، ومع ذلك يكرهني كراهية شديدة تصل إلى حد الغل!

قضيت معظم سنوات عُمري وأنا أكتب. كل يوم أكتب، لا أتوقف عن الكتابةِ إلا لايامٍ معدودةٍ. تجربتي الحقيقية في هذه الحياة كانت أمام لوحة المفاتيح، أما هذه التي حققت كل ذلك الضجيج، والجدال، والصخب، تلك المرتبطة بالمواد المرئية فكانت دائماً فقرة اعتراضية تستمر عدة أسابيع قبل أن تختفي، وأختفي معها وأعود إلى الكتابة. لهذا السبب أصنع هذه النظرة المغرقة في التناقض والتي توقع البعض ممن يحبون إلغاء البشر في مأزقٍ ظريف. هو نفسه هذا الشخص الذي يكتب المقالات، نفسه ذلك المجنون الذي كان يصرخ، ويبكي، ويشتم، ويعتذر، وفاقد للسيطرة، وفوق ذلك مدمن! كيف يمكنني أن أؤذيه بماضيه؟ وفي الوقت نفسه كيف يمكنني أن ألغيه؟ هذا هو سؤال الغل!
أن يصدر ذلك من إنسان قمت بإيذائه هو شيء مفهوم، شخض أذاك! لن تطيق منه أي فعل حتى لو حرر فلسطين! هنا لغة الموقف والكراهية تنتصر لامحالة. لكن السؤال، ماذا لو كنت أنت غريبا؟ ليس بيني وبينك أي أذى وأي تاريخ؟ هُنا السؤال الكبير: ما الذي يدفعك للشعور أنَّه يمكنك أن تمارس كراهيتك تجاهي، وأن تتقيأ سُميَّتك وتظن أنه لن تكون لي ردة فعل تجاهك؟ وفي النهاية عندما تتعرض للحرج أو لردة الفعل وكأنك تصاب بصدمة أن هذا الإنسان يدافع عن نفسه، وأنَّك أنت فعليا المعتدي!

أيهما حقيقي أكثر؟ وأيهما العارض؟ معاوية الذي يكتب؟ أم معاوية الذي يهذون ويعيش أياما مليئة بالهجل! الذي يقرأ لي يعرف [فاصلي] الهجلي، ويعرف أنها الأسابيع التي لا أستطيع الكتابة فيها، أنفجرُ في الكلام، لأسباب كثيرة، ثنائية القطب واحد منها، والاضطرابات الداخلية والصدمات سبب آخر. الذي يقرأ لي يعرف منذ سنوات طويلة هذه الحكاية ولذلك لا يعبأ بها، ينتظر بفتور الأيام التي تأتي بعدها، والتي أعود فيها إلى الكتابة معظم وقتي، والآن، بعد مشاغل الحياة والمسؤوليات، معظم الوقت الذي أملكه لنفسي. الكتابة لدي ذات وظائف متعددة، منها الوظيفة العلاجية، ومنها وسيلة للتعايش مع المجتمع والناس.

أنا مضطرٌ لذلك بشكل قسري، الدفاع عن حقوقي في هذه الحياة أمام الغرباء يستدعي مني صناعة هذا التصويب الدائم للسياق. عشت وترعرعت كاتباً، وأين؟ في هذا الوسط الثقافي العُماني المحتقن بالإلغاء والشللية! وأن تكون كاتبا، وعدوا للجميع بما في ذلك السلطة والدين! هل تتخيل حجم الصدمة المضادة الذي يمكنك أن تتعرض له؟ لا عجب أنني اخترت طوفان الكراهية لسنوات من عُمري، تلك البذور التي بذرتها، والأشواك التي حصدتها، تجربتي، وأنا أعلم بها، وأقبل نتائجها. أن يجعل غريب مشحون بالغل مهمته التنكيل بي معنويا أو نفسيا بسببها، هو يفتح باب ردة الفعل بكل بساطة، ويؤسفني أن أعترف: أنا لست إنسانا طيّبا، بي قسوة تكفي لإيقاع الضرر والأذى، وكلما كان العدو منيعا، ذهبت إلى ما هو أبعد من الخسارات لرد الصاع. طبيعة أتعايش معها بصعوبة بالغة بصناعة كل هذه الحواجز الممكنة التي تمنع أي غريب من اعتبار حياتي مشاعاً متاحاً.

أسوأ ما أواجهه في هذه الحياة ليس أحمق يرفع الكلفة ويمزح مزاحا ثقيلا، وليس اسما مستعارا يظن أن اجترار ماضي الأخطاء قد يؤلمني، وليس غافلا أو جاهلا يرفع الكامرة في وجهي في مكان عام ويظنُّ أنُّه يحق له ذلك، ويتفاجأ عندما أهجم عليه وأصنع حرجا عاما في وجهه! هذه المواقف العادية التي لا أعبأ أن أدخل فيها مهما أدى ذلك إلى صناعة صورة سيئة عني، أنني لست شخصا طيبا! وأنا لست إنسانا طيبا! أعامل كل إنسان بأخلاقه هو، ولست فخورا بذلك، ولا أحب ذلك، ولكن هذا ما أفعله! لا أظن أن الحياة وضعتني في رفاهية التعامل بسموٍّ مع خصم قذر!

أسوأ ما أواجهه في هذه الحياة هو الذي يحاول تخريب حقوقي. هذا الذي يجعلني أتعامل بعدوانية مفرطة. ومن أين يصنع الاستحقاق على ذلك؟ بإلغاء كل ما كتبته. بإلغائي، وبالتمسك التام بكل ذلك معاوية [العارض] أو كما يسميه البعض معاوية [المعارض] وغيرها من التصنيفات. هذا هو أسوأ ما أواجهه في هذه الحياة. لذلك لا أعبأ حقا بالغرباء الذين كل همهم صناعة انطباع سيء عني. فليصنعه كما يشاء، لا يزعجني أن يكرهني إنسان، أو أن يستخف بي، أو ألا يحبني، الذي يزعجني أن تُظلم حقوقي نتيجة هذه التحيزات، هُنا، أنا لست إنسانا جميلا ستحب أن تتقاطع معه، لست إنسانا جميلا ستحب أن تظلمه، لست إنسانا جميلا ستظن أنَّك ستفلت من حقده الشديد والمتراكم، أنا لست إنسانا جميلا، لست طيبا، لست جميلا، لكنني أسعى دائما إلى حياة دون صدامات. إذا ظُلمتُ سأظلم، وكما قال الشاعر: "أجهل فوق جهل الجاهلينا"

مؤسف حقا، ومحزن، ولكن، هذه حقيقتي التعيسة، ولست بصدد تلطيفها بأي حاضر حدث، أو أي لحظةٍ تمتلئ بالحب، للحب سياقه الذي أعيشه محافظ عليه، وللكراهية سياقها الذي أعيشه وأنا أكرهه، لكنني لا أتنصل منه.

لم تكن لحظة كتابة جيدة، ولم تكن كما كنت أريد. ولكن، من الذي يزور هذه المدونة من الأساس! القلة القليلة التي تعرفُ صلتنا ببعض، ككاتب يخاطب قراءه، وكقراء يعرفون اللحظة التي يتدخلون فيها لتصويب سياقٍ منكسر، أو لكسر وهم مستمر.

معاوية

29/8/2024

الزي الذي يقتل!

 الشرطي المتخفي! هذا أقرب مصطلح يمكن أن تختصر به الظاهرة الاجتماعية والنفسية لكل القتلة الذين يجدون في ثغرات القانون فرصةً لإطلاق الرصاص، أو لتطبيق العنف على أي ضعيف يجهل حقوقه، أو أي أعزل يخطئ أبسط خطأ.


مشاهد الفيديو الحقيقية بالعشرات، من جورج فلويد، إلى تلك المرأة التي كانت تزيح الماء المغلي عن النار، إلى ذلك الموظف الذي كان يريد الذهاب للعمل فقال له: وصفك يتطابق مع شخص يسرق سيارات!
يحاول النقاش ورجع قليلا للخلف فإذا بالشرطي يرميه في الأرض بحركة مصارعة وينسف جمجمته في الإسفلت!

وعندما ترى المحاكمات، وثغرات القانون، من النادر أن ترى إدانة إلا إن كانت الجريمة وقحةً، كخنق فلويد الشهير الذي كان أمام مسمع ومرأى العالم. كان قتلا غير مقصود، فالمقصود هو تعذيبه فقط، وإيقاع كل أشكال الضرر عليه، لكنَّ ملك السهم قصده ومات جورج فلويد، قتله شرطي آخر يمارس نزعة الشر باسم القانون.
أطلق النار ثم اسأل لاحقا! هكذا أصبح الشعار، لماذا أطلقت عليه النار؟ وكأنني رأيت مسدسا في يده! كان يهرب منا، وجود مسدس شيء متوقع!
وتتوالى الأعذار ويكثر القتلى. والثغرة دائما شيء من هذا القبيل، رجل فاقد العقل يصرخ في وجه الشرطي، يرفع يده فيتلقى 12 رصاصة متتالية.

كم شرطيا دخل مهنة الشرطة وهو يبحث عن الفرصة التي يزهق فيها روحا؟ كم شرطيا كان يحلم كأي سايكوباثي مجنون باللحظة التي يطلق فيها النار على أي [عذر] على هيئة إنسان يسمح له بالجريمة الكاملة، بالنية الكاملة، بالانتظار الصبور حتى تحين اللحظة التي يصبح فيها قاتلا، باسم القانون.

وأي تشريع هذا يمكنه أن يغير هذه المعادلة؟ بلاد كلها أسلحة، تعبد الأسلحة تتغزل الأسلحة، تتزوج الأسلحة، تتفاخر بها، تكاد لا تتفاخر بأي حق من الحقوق أكثر من حمل السلاح! أي تشريع هذا يمكنه أن يجعل الشرطي الأمريكي إنسانا؟

إنها أمريكا، الغاب، الموت الذي ينتظرك في أي لحظة، والحياة التي تحدث لك في أي لحظة، مزيج تشريعي، وقانوني، وثقافي، فارق في تاريخ العالم، دستور وأحزاب، شعب وطبقات، عنصرية وعدل، وصراع ثقافي يغزو العالم دائما، وهذا وجه واحد من وجوه كثيرة لهذه البلاد التي حتى هذه اللحظة لم تردم ثغرة تجعل الشرطي قاتلا، وتجعل القاتل شرطيا!



القسوة ليست حلا!


 "!!!القسوة هي الحل"

هذا هو الشعار الذي يرفعه البعض عندما تكتشف عائلة أنَّ أمامها فرد من أفرادها يعاني من مرضٍ نفسي! والموَّال نفسه يتكرر في عشرات العوائل، ويعود بالنتيجة نفسها. إمَّا إيصال المريض لحالة من العزلة التامة، والاكتئاب، ويكون جالس في البيت ويفقد مهاراته الاجتماعية، ويكتئب، وينعزل، ويفقد ثقته بنفسه، وأحلامه، ويفقد قدرته على تكوين طموح للحياة وللعمل وللاندماج مع الناس والعائلة ولتكوين صداقات صحية ونافعة تحميه بدلا من أن تستغله، والعائلة هُنا "راضية" بالذي يحدث، لماذا؟ ما دام لا يسبب مشاكل، ولا يصرخ في منتصف الشارع، ولا "يفضحنا" فلا بأس، دعه في غرفته لسنوات وسنوات، أو لشهور، المهم هو مصلحة العائلة، والمهم هو الحفاظ على الصورة الاجتماعية. هل ألوم العائلة التي تفعل ذلك؟ لست بصدد إدانة من يفعل ذلك بجهلٍ منه، ويظن أن أقصى أمل من المريض النفسي هو أن يبقى سجينا في غرفة فاقد الاتصال بالعالم! ما دام يفعل ذلك عن جهل، الذي يفعل ذلك عن علم وقصد هو المجرم الحقيقي في حق أبنائه، هذا ونحن لم نتحدث بعد عن الذي يقفز بفلذة كبده لباصر وراء باصر بحثا عن العفريت الذي يسبب اختلالا في جهازهم العصبي!

المريض النفسي الذي في عائلتك يلزمك أن تبدأ أولا بتوعية نفسك. كيف أشرحها لك؟ أول شخص يجب أن يقابل طبيبا نفسيا، أو أخصائيا نفسيا هو أنت المسؤول عن هذا المريض. افعل ذلك من أجل نفسك، افعل ذلك من أجل استبعاد أي عوامل وراثية في المرض نفسه، افعل ذلك لأنك عانيت، وتعبت، ودفعت ثمن مرض ابنك أو ابنتك أو أخيك أو زوجتك أو دفعتِ ثمن مرض زوجك، الخطوة الأولى هو أنت أن تكون أنت بخير.
أولا دعني أشرح الفرق لك بين الطبيب النفسي والأخصائي النفسي، الطبيب النفسي مهمته العلاج بالأدوية، واتخاذ قرارات قانونية مهمة مثل التنويم، هنا تقع مسؤولية الطبيب، عندما يكون لديك مريض يمكن أن يتعرض للخطر، أو للانتحار، أو لجرعة زائدة، هُنا أنت في حلٍّ من التصرف ولتدع الأمر في يد الأطباء، ولكن ماذا بعد التشخيص؟ وماذا بعد الاستقرار المبدئي؟ سيكون لديك مريض نفسي يعاني من صدمات متتالية! فهل الحل بعد أن يبدأ بالاستقرار أن تجعله يعاني الأمرين بسبب قلقك؟ ولأنه "تعبك واجد" ومباشرة تعامله كأنَّه سبب عذابك في الدنيا! يا سلام عليك!

كيف يستقر هذا الذي يتعايش من الأساس مع مرض نفسي هو نفسه لا يفهم كيف يتعايش معه! الوصمة الاجتماعية تقول له مجنون، وفاصل، والوصمة الذاتية تقول له أنَّه شخص [به شيء غلط] .. وتأتي أنت قلقا، ومتعبا، وخائفا من الناس وكلامهم فتتحول إلى شخص عصبي ترمي عليه ليل نهار بالكلام السام وتلومه دائما على مشكلته!
لماذا عليك أن تقابل أخصائيا نفسيا، لكي تعرف متى تشد، ومتى ترخي، لأن الأخصائي النفسي هو الذي يعطيك الخطوط الواضحة لعلاقتك بفرد من عائلتك مريض نفسيا، كان زوجا، أو كانت زوجة، أو كان ابنا، أو كانت ابنة، أو كانت أختا توفى أبوها وكنت ولي أمرها كأخيها، أو كنت ابنةً كبيرة لأيتام ظهر على الابن الأكبر المراهق بعض الأعراض لمرض نفسي.
قابل طبيبا واشرح له وضعك، وقابل أخصائيا واستمع منه، جلسة جلستين ثلاث. الأخصائي النفسي مهمته مختلفة عن الطبيب، مهمته أن يسمعك بشكل دوري، وينبهك لوجود شيء مقلق عليك أو على فرد عائلتك. العلاج الدوائي وحده ليس كافيا في بعض الحالات، وجود أخصائي نفسي يعلم ما الذي يقوله، يعمل وفق قانون ويقدم رأيا علميا دقيقيا، ويشرح لك الحقوق المتعلقة بالمريض، ويحميك من أن تتخذ القرار الخطأ وفي الوقت نفسه يحميك من أن تحمل نفسك فوق طاقتها، هذا يحتاج إلى لقاء تفصيلي دوري مع الأخصائي النفسي.
حتى هذه اللحظة كثيرون لا يعرفون الفرق بين الطبيب النفسي وبين الأخصائي النفسي، ولذلك يدور عالم الصحة النفسية في الوصمة الشائعة، والتصورات النمطية، ونظام [القسوة هي الحل].

تقسو؟؟ المريض الذي اليوم تعاني منه مريضا يتقلب بين النوبات أو المخدرات، غدا تعاني منه سجينا، ربما تعاني منه بعد غد تاجرا، ربما تعاني منه بعد غدين عضوا في عصابة، لأنك ظننت أن الحل هو التهجير، وإبعاده، وتركه يتدهور، وحرمانه من حقوقه! أو لأنك ظننت أن الباصر هو الحل؟ أو ظننت أن ابتكار قصة عفريت وجني وغيرها من الخرافات ستجعله اجتماعيا [مقبول] لكن الأدوية، والعلاج بالكلام مع الأخصائي النفسي هذه حلول غير مطروحة لديك! المرض النفسي مشكلة ممكنة العلاج، وبعض الأمراض علاجها حبتي دواء في اليوم، وربما زيارة شهرية للأخصائي النفسي، لكن من الذي يعاني من الهلع!
تعاني أنت من الهلع، ومن قلق الخوف من المجهول، ومن ذلك المجهول شاسع المدى [الجنون/ المرض] يا إلهي! ابني أو ابنتي أو أخي أو أختي تنطبق عليهم وصمة [مجنون/ مريض نفسي] وتصنع لنفسك مشكلة طويلة المدى فقط لأنَّ مجتمعا ما قصّر في التوعية بواقع العلاج النفسي وبحقيقته، أو لأنَّ مؤسسات طبية نفسية كثيرة شغلها الحقيقي [تحلب فلوس الناس] بسبب عدم علمهم، وبسبب رغبتهم في الحلول السريعة، أو بسبب تنصل ذوي المريض نفسيا من دورهم في استقراره وفي عودته لآمال تمكنه من الالتحاق بالحياة الطبيعية.

المدمن، من مصحة لمصحة، ثم يعود للحياة الطبيعية، ماذا يجد؟ يجد تقريعا، وشكوكا، ويسمع كلاما مثل السم، ويعاقب على ما فعله، حتى يتحقق العامل الخفي، والرقم الذي يحفظه في رأسه [للتاجر] الذي يعيده إلى الإدمان، وتحدث النكسة، وتحدث الكارثة، ثم مجددا يسافر أو يذهب للمسرة.
أعلم أن الأمر صعب للغاية، وليس سهلا، لكن هناك سؤال آخر عن السواء النفسي ومتى يصبح الإنسان "بخير" ومتى نقول أنَّه تجاوز المآزق النفسي؟ عندما يكون ارتباطا بالحياة، وهذا يأخذ سنوات في بعض الحالات، عندما يكون دفاعات ليحمي نفسه من النكسات، عندما يأخذ أدويته، وحتى مع تحقق هذه الدفاعات ثمة نكسات قد تحدث، وفاة قريب، أو مدمن يحاول جره لسابق عهده، أو لحظة غباء يتعاطى فيها، ليس المهم هو التأكد من وجود [صفر نكسة] المهم هو التأكد أن أي نكسة لا تطول، وأنها ستجد علاجا سريعا، وأن هناك خط عودة.

القسوة ليست حلا، والمقاربة طويلة المدى تؤتي أكلها. لكن لو كنت تبحث عن الحلول السريعة أو كنت تريد التنصل من ذلك المريض فقط لأنك تريد الحفاظ على حياتك بعيدا عن كلام الناس، أو لأنَّك غير مستعد تتعب نفسك أو تدفع ضريبة الوقوف معه، أو لأنك من الأساس لا تعلم كيف تتصرف، أو لأنك متعب أو مرهق، وأنت بحاجة لمساعدة وبحاجة لمن يسمعك ويفهم همومك. قبل أن تعين مريضا من عائلتك أنت أوَّل من عليه أن يكون بخير، قابل طبيبا، وقابل أخصائيا نفسيا وجرب هذا العالم، وأرح نفسك من التكهن، ومن الشعور أنك مقصر في شيء لم تقصر فيه، ومن اتخاذ قرارات ليس معك العلم النفسي الكافي لتتخذها، قابل الأخصائي، وقابل الطبيب، وافهم منهما صوابية القرارات، ستشعر بالراحة، والراحة هذه ستعطيك صبرا، وستجعلك عونا أفضل لفرد عائلتك الذي يعاني أيضا من مرض نفسي.

هذا الذي تراه اليوم مريضا نفسيا، يعاني من النوبات، أو الغضب، أو يصرخ في الشارع، قد يستقر، بالأدوية أو بالعلاج بالجلسات مع الأخصائيين النفسيين، ذلك الذي كان يوما ما نزيل المصحات النفسية تعالج وأصبح بخير، واستقر لسنوات وسنوات، ولعله انتكس مرة أو مرتين لكنها عاد ووقف على قدميه، لا تقطع الأمل، لا تحكم حكم إعدام عليه، لا تقرر نيابة عنه أنه لن يعمل، ولن يدرس، ولن يكون عضوا نافعا في المجتمع، وإن كان هذا القرار لا مهرب منه فليكن قرار لجنة قانونية وطبية، ليس قرارا تتخذه فقط لأن ابنك ذات يوم خرج يصرخ في المسجد، أو أصابته نوبة وبدأ يرى خيالات في الجدران، عالم العلاج النفسي الطبي، والعلاج بالجلسات والإرشاد والنقاش له سبب في هذا العالم، سبب قانوني، سبب يعفيك من أن تتخذ بعض القرارات التي فوق طاقتك، لذلك، لا تخجل من أن تنال المساعدة النفسية التي تجعلك عونا لمواجهة هذا الكابوس الذي تظنه مرعبا.

هذا المريض نفسيا الذي يبدو لك شخصا ميؤوسا منه قد يدهشك أنَّه يحتاج إلى حبتي دواء يوميا، وإلى استقرار مدته ستة أشهر قبل أن يعود للحياة الطبيعية، مستقرا، هادئا، ربما يدرس، ربما يعمل، ربما تكون له تجارة، ربما يتزوج ويعيش بخير وحياةً طبيعية. هذا الذي تظن أنك تعيش كارثة الحياة فيه أو بسببه قد يكون حل مشكلته أسهل مما تظن، لكن عليك أن تجد العلاج المناسب مع الشخص المناسب، مع الطبيب المناسب ومع الأخصائي النفسي المناسب.
اذهب للطبيب، واذهب لأخصائي نفسي، وتعلم عن هذا العالم بعض الأساسيات قد تكون تعيش قلقا هائلا، ورعبا لا داعي له، قد ترتاح عندما تعرف المرض وعلاجه، قد ترتاح عندما يقول لك إنسان مختص بكامل ثقته: هذه الحالة ليست مستعصية!

القسوة ليست حلا على المريض، وليست حلا لتمارسها على نفسك، فتحرم نفسك من الإرشاد النفسي، وتحرم نفسك من أن تلتقي بأحد لتحكي له مشاعرك تجاه فرد عائلتك المريض، القسوة على نفسك ليست حلا، أنت الذي يجب عليك أن تكون بخير، فلا تنصت لكل ما يقوله المجتمع، واذهب للطبيب، واذهب للأخصائي، ودع عنك البحث عن الحلول السريعة أو العصا السحرية، هذا ابتلاء، فلا تجعله يسقط على رأسك مرتين فقط لأنك تظن أن القسوة على مريض نفسي، أو القسوة على نفسك هي الحل!

القسوة ليست حلا! ليس في هذا السياق!